لم أكن أعلم السبب وراء إصرار أمي على معاودة تكرار نصيحتها لي:

Ad

«يا وليدي، ألف صديق ولا عدو واحد».

ومراراً تساءلت بيني وبين نفسي: «لماذا تهاب أمي عدواً واحداً، في مقابلة ألف صديق؟».

كنت استمع لنصيحتها -يرحمها الله- وأهزُّ رأسي، بالموافقة. لكني، في السنوات الأخيرة بدأت أدرك لماذا كانت تُسدي نصيحتها الغالية إليَّ، وتصرّ على تكرارها بين آن وآخر.

أمي، المرأة الأمية، التي شربتُ منها رحيق الحياة، كانت تدرك بحسها الإنساني البسيط، كم هو متعب صعود سفوح وهضاب الصداقة الإنسانية، وكم هو صعب الوصول إلى قممها. وربما، بسبب الطيبة التي تستوطن خفق قلبها، كانت تعلم، علم الناس الطيبين، الأصعب من ذلك كله، وأعني به الاحتفاظ بالصديق!

تتقلب شؤون الحياة بين لحظة وتالية، بين مدٍ وجزر، وفقر وغنى، وصحة ومرض، ومهمة وغيرها، ووظيفة وثانية، ومركز وآخر. ومع تغيّر الحال، تتقلب بعض الوجوه والنظرات والسُحن، وتتبدل نبرات وأصوات وكلمات وجمل، ويحلُّ حال مكان حال، وكم هو مؤلم، أن يكشر الصديق، بوجه كالح، في وجه صديقه؟

قد تهب عاصفة عابرة، فتهز وتد خيمة الصداقة، وأحياناً تكون العاصفة قوية فتنتزع الوتد، وتُطير بأحد جوانب الخيمة، كاشفة عن خبايا ذلك الجانب. لكن، في أحوال جوية متقلبة، قد تهب عاصفة مفاجئة هوجاء، فتُطير بكامل غطاء الخيمة، كاشفة ستر أشيائها، ومبعثرة محتوياتها، ولحظتها، قد يرى أحدنا ما لا يسره، وربما ما يثير دهشته، وفي أحيانٍ مؤلمة بذاتها، قد يرى بعينه ما لا يكاد يُصدق.

الصداقة بين إنسانين، خيمة جميلة تستر في خِدْرها بعضاً من روحيهما، وليس ألزم على خيمة الصداقة من حسن الطوية والصدق. لذا حين يفرّط طرفٌ بثمين الصداقة وغاليها، فإن ذلك يجرح ويُذهب ببعض قلب الآخر.

ليس أسهل من الهدم، وليس أصعب من البناء. ولأن العلاقات الإنسانية تُبنى بهواجس الأرواح، فإن مسّاً وقسوةً على روح الآخر، قد تذهب فيها، وتجرح القلب والنفس.

في ديوانه «وعل في الغابة» يقول الشاعر رياض الصالح الحسين، نقلاً عن الشاعر «بول فانسانسيني»:

أعدُّ الأيام على أصابعي

وعليها أعدُّ أيضاً

أصحابي وأصدقائي

وفي يومٍ ما

لن أعدُّ على أصابعي

سوى أصابعي