يجمع المراقبون الموضوعيون على أن ما تحقق من إنجاز في إطار إعلان طهران لتبادل اليورانيوم، كان بمنزلة إنجاز لافت لدعاة الخيار الدبلوماسي الذي ظلت تنشده وتلح عليه الدول النامية والمستقلة، وفي طليعتها تركيا والبرازيل منذ مدة، مقابل خيار التصعيد والتهديد بالحرب تصريحا أو تلميحا، والذي تلوح به الإدارة الأميركية وبإلحاح إسرائيلي ملفت على طول الخط في تعاملها مع ما بات يعرف بالملف النووي الإيراني.

Ad

وإذا كان من حق طهران أن تحتفل بهذا الإنجاز على أنه نصر دبلوماسي مميز لها في إطار ما بات يعرف بدبلوماسية حياكة السجاد، فإن سبب ذلك هو أنها قد استطاعت من خلال هذا الإنجاز أن تضع المحور الأميركي الإسرائيلي المناهض لطموحاتها النووية في الزاوية الحرجة عمليا.

فما حصل وتحقق في إعلان طهران، أسقط عمليا ورقة التوت الأخيرة التي كانت تتغطى بها واشنطن في تعاملها مع هذا الملف، كما نزع كل الذرائع التي كان يمكن أن تلجأ إليها واشنطن في استمرارها في مسار التصعيد والتهديد والوعيد فيما لو رفضت طهران المقترح التركي البرازيلي.

طبعا ثمة من يعتقد في طهران أن واشنطن ليست بحاجة إلى ذريعة للمضي قدما في معاداتها للطموحات الإيرانية وهو محق في ذلك، بعدما أثبت الأميركيون أن سياساتهم فيما يخص «ملفات» بلدان العالمين العربي والإسلامي، إنما تقوم أساسا على النظرة الإسرائيلية والصهيونية عموما التي لا تريد لهذا الشرق العربي والمسلم أن تقوم له قائمة أصلا.

ينقل أحد كبار الخبراء الإيرانيين النووين من فريق التفاوض الرسمي مع مجموعة «الخمسة + واحد»، أن أحد المندوبين الأوروبيين المعروفة بلاده في موقفها المشابه لموقف الإدارة الأميركية المهدد باستعمال السلاح النووي ضد طهران، في حال استمرت قدما في مشروعها، بأنه وأثناء احتدام النقاش معه حول حق إيران في التخصيب، والذي تكفله لها معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الموقع عليها مبكرا من جانب الحكومة الإيرانية، قام بإطفاء سيجارته المشتعلة بحركة عصبية ملفتة وهو يردد: إن مشروعكم النووي كله يجب أن يتوقف من الأساس تماما كما أطفئ أنا سيجارتي في هذه المنفضة.

وهذا هو موقف الإدارة الأميركية الحقيقي أيضا في الواقع، وكلا الموقفين نابع من القراءة الصهيونية التي تقول إنه كان يجب منع طهران بالأساس من الوغول في هذا الحقل، بغض النظر إن كانت طهران ستلجأ في يوم ما إلى مجال التسلح النووي أم لا.

في أوج الغزو الأميركي للعراق على خلفية مزاعم امتلاكه أسلحة الدمار الشامل والتي ثبت كذبها فيما بعد، كان وزير الخارجية الأميركي كولن باول وكلما كان يحرج باستدلالات حق إيران في دورة الوقود النووي الكاملة، وأهمها حق تخصيب اليورانيوم كما هي حال دولة عالمثالثية أيضا مثل البرازيل مثلا، وهو الأمر الذي يكفله لهما انضمامهما المبكر لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كان يرد بالقول: إن إيران ليست البرازيل حتى نعطيها مثل هذا الحق، فالبرازيل دولة ديمقراطية يمكن الاعتماد عليها في حين أن إيران دولة تغرد خارج السرب ولا يمكن الاطمئنان إليها.

وها هي البرزيل اليوم وهي الدولة الديمقراطية التي يعتمد الغرب على صدقيتها، وهي التي قبلت طهران منها تعهدها بالإتيان بضمانات ملموسة من الغرب لعقد صفقة التبادل، تدخل اليوم على خط نزع فتيل التصعيد والتهديد، فما عدا مما بدا حتى يرفض الغرب وواشنطن بشكل خاص هذه الصفقة ويعتبرها غير كافية لتبديد ما يسمونه بالشكوك المحيطة بالبرنامج النووي الإيراني؟!

الجواب هو في الكذبة الكبرى التي يحاول الغرب وأميركا في الطليعة تلفيقها منذ البداية حول إيران وكل دولة عالمثالثية تشبه إيران، وتتجرأ على التغريد خارج السرب الغربي والأميركي، ألا وهي أن الطاقة النووية بالنسبة لهذه البلدان تساوي القنبلة النووية!

ثم تكر المسبحة ويفتح لها ملف اسمه الملف النووي، ولذلك نقول إن أولئك الذين يقولون إن أميركا وإسرائيل وكل من يدور في فلكهما ليسوا بحاجة إلى ذرائع ليعربوا عن قلقهم المزعوم حول طموحات إيران النووية، فإيران المستقلة والمتحررة من التبعية للسياسات الأميركية وحده يكفي أن يقلق إسرائيل والمتعلقين بحبالها، فكيف أن تكون إيران دولة نووية؟!

لقد قالها لي وعلى الهواء مباشرة أحد هؤلاء المتعلقين بحبال أميركا وإسرائيل قبل أيام، وأثناء احتدام النقاش معه حول الحق الإيراني في التخصيب، والذي تكفله لها قوانين الوكالة الدولية للطاقة الذرية: علينا أن نكون واقعيين بأن هذا لا يمكن أن يقبل من بلد مثل إيران لأنها تسبح خارج الإرادة الأميركية، بينما هو مقبول من إسرائيل، وهي تمتلك ترسانة نووية لأنها تحت المظلة الأميركية بما في ذلك إمكانية استخدامها للسلاح النووي، وهو ما يشكل ضمانة للأمن والسلم الإقليمي.

هذه هي الحقيقة العارية التي تقف ليس فقط وراء رفض واشنطن إعلان طهران، بل للحنق والغضب الإسرائيلي كلما لاحت في الأفق تسوية لهذا الخلاف الدولي، بل لأصل تشكيل ما يسمى بملف إيران النووي.

ذلك لأن الهدف من كل ما يحصل طوال السنين الماضية التي رافقت مناقشات هذا الملف هو أن يبقى شيء اسمه الملف النووي الإيراني على الطاولة الدولية، يمكننا تسميته «ملف ربط نزاع» مع هذه الدولة المستقلة والمتحررة من التبعية الأميركية، حتى يكون ذلك سيفا مصلتا على رقبة أي بلد يفكر بالتجرؤ على الخروج على الإرادة الأميركية الإسرائيلية، ودائما تحت حجة أو ذريعة الخروج على الإرادة الدولية أو ما بات يعرف بالمجتمع الدولي.

وهي كذبة باتت مفضوحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لمن يملك عقلا سويا، ومن يعرف كيف تتم المساومات وتبرم الصفقات، وتعقد التسويات خلف كواليس ما يمكن تسميتها بمعادلة الغلبة الموروثة منذ الحرب العالمية الثانية.

هذه المعادلة التي يتم إعادة صياغتها كلما تعرضت للزعزعة بفضل تنامي وعي الشعوب والدول والأمم المتحررة، تحت عناوين جديدة منذ انتهاء الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن.

ويأتي إعلان طهران اليوم مؤشرا جديدا على تعرض هذه المعادلة المجحفة بحق الشعوب المستقلة والمتحررة، ليضاف بذلك مدماك جديد إلى جهود إقليمية ودولية عديدة تهدف إلى الإطاحة بتلك الصيغة الظالمة.

لن يمضي وقت طويل حتى تظهر الحقيقة من وراء حجب كل هذا الضجيج الكاذب حول ما يسمى بخطر الطموح النووي الإيراني، خصوصا بعد أن تجاوزت طهران خطر قدرة الغرب المتجبر على إطفاء شعلة استقلالها كما تمنى البعض أن يرى ذلك على طريقة إطفاء ذلك المفاوض الغربي لسيجارته المشتعلة حنقا على تغريد إيران خارج السرب الدولي.

وإعلان طهران سيشكل بداية النهاية لانفضاح أمر المتباكين على الأمن والسلم الدوليين، ذلك أن هذا الإعلان لم يكن إنجازه ممكنا، لولا معادلة الردع التي حققتها طهران في الميدان قبل أن تحققها على الورق.

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة