يذهب أحد تفسيرات الأزمة المالية إلى وصفها بأنها، طبقاً لتعبير نسيم طالب، عبارة عن حدث أشبه "بالبجعة السوداء"، حدث غير مخطط له ولا يمكن التنبؤ بوقوعه، ويعمل على تغيير مسار التاريخ. ولكن في كتابي الجديد عن الأزمات المالية، الذي صدر تحت عنوان "اقتصاد الأزمة"، وهو الكتاب الذي لا يكتفي بتغطية الأزمة الأخيرة، بل أيضاً العشرات من الأزمات الأخرى التي شهدها العالم عبر التاريخ سواء في البلدان المتقدمة أو في الأسواق الناشئة، أوضح أن الأزمة المالية في واقع الأمر حدث يمكن التنبؤ بوقوعه (بجعة بيضاء). وما يحدث الآن- المرحلة الثانية من الأزمة المالية العالمية- لم يكن أقل قابلية للتنبؤ بوقوعه.

Ad

إن الأزمات المالية تقع كنتيجة حتمية لتراكم مخاطر الاقتصاد الكلي والمجازفات المالية والسياسية ونقاط الضعف: فقاعات الأصول، والإفراط في خوض المجازفات والإنفاق بالاستدانة، وموجات ازدهار الائتمان، والسياسات النقدية المتساهلة، والافتقار إلى القدر الكافي من التنظيم والإشراف على النظام المالي، والجشع، ودخول البنوك وغيرها من المؤسسات المالية في استثمارات محفوفة بالمخاطر.

ويشير التاريخ أيضاً إلى أن الأزمات المالية تميل إلى التحول إلى أشكال جديدة بمرور الوقت، فالأزمات كتلك التي عانيناها أخيراً كانت مدفوعة في مستهل الأمر بانتشار الديون المفرطة والإنفاق بالاستدانة بين مؤسسات القطاع الخاص، الأسر، والبنوك والمؤسسات المالية، والشركات. ولقد أدى ذلك في النهاية إلى إعادة تمويل القطاع العام بالاستدانة مع تسبب الحوافز المالية وتعميم الخسائر الخاصة- برامج الإنقاذ- في ارتفاع عجز الموازنة وتراكم الديون العامة إلى حد خطير.

ورغم أن هذه الحوافز المالية وبرامج الإنقاذ ربما كانت ضرورية لمنع الركود الأعظم من التحول إلى كساد أعظم أشبه بما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين، فإن تحميل الدين العام على الدين الخاص ينطوي على تكاليف باهظة، ففي نهاية المطاف سنضطر إلى خفض هذا العجز الضخم والديون الهائلة من خلال فرض ضرائب أعلى والحد من الإنفاق، وهذا التقشف- اللازم لتجنب الأزمة المالية- يميل إلى إبطاء التعافي الاقتصادي في الأمد القريب. وإذا لم نعالج الخلل في التوازن المالي عن طريق خفض الإنفاق وزيادة العائدات، فلن نجد أمامنا سوى خيارين: التضخم في البلدان التي تقترض بعملاتها الخاصة والقادرة على معالجة عجزها بطباعة النقود؛ أو العجز عن سداد الديون بالنسبة للبلدان التي تقترض بالعملات الأجنبية أو التي لا تستطيع طباعة نقود خاصة بها.

وعلى هذا فإن الأحداث الأخيرة في اليونان والبرتغال وإيرلندا وإيطاليا وإسبانيا ليست سوى المرحلة الثانية من الأزمة المالية العالمية الأخيرة، حيث أدى تعميم الخسائر الخاصة وتيسير القيود المالية بهدف تحفيز الاقتصاد الراكد إلى تراكم خطير لعجز الموازنات العامة والديون. وهذا يعني أن الأزمة المالية العالمية الأخيرة لم تنته بعد؛ بل إنها في واقع الأمر بلغت مرحلة جديدة وأشد خطورة.

إن الأزمة المالية في التفسير العملي عبارة عن حدث يرغم المسؤولين السياسيين على قضاء عطلة نهاية أسبوع طويلة في محاولة يائسة للإعلان عن حزمة إنقاذ جديدة من أجل تجنب انتشار الذعر على المستويين الوطني والعالمي قبل فتح الأسواق يوم الاثنين. في السنوات الماضية، كان المسؤولون يقضون مثل هذه العطلات في التعامل مع عمليات إنقاذ شركات خاصة- مثل "بير شتيرنز"، و"فاني ماي" و"فريدي ماك"، و"ليمان براذرز"، والمجموعة الدولية الأميركية AIG، إلى آخر ذلك.

ولا شك أن دراما عطلات نهاية الأسبوع هذه مازالت قائمة، حيث أمضى صناع القرار السياسي في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو أخيراً عطلة نهاية أسبوع يائسة في محاولة وضع خطة إنقاذ، ليس لليونان فقط، بل أيضاً لغيرها من البلدان الضعيفة في منطقة اليورو. وتطور الأمور هنا واضح: ففي البداية كان إنقاذ الشركات الخاصة، والآن وصلنا إلى مرحلة إنقاذ المنقذين، أي الحكومات.

إن حجم عمليات الإنقاذ هذه آخذ في الازدياد، ففي أثناء الأزمة المالية الآسيوية في الفترة 1997-1998، تلقت كوريا الجنوبية- وهي صاحبة السوق الناشئة الضخمة نسبياً- ما اعتبر آنذاك حزمة إنقاذ ضخمة للغاية من صندوق النقد الدولي (10 مليارات دولار أميركي). ولكن بعد عمليات إنقاذ "بير شتيرنز" (40 مليار دولار)، و"فاني ماي" و"فريدي ماك" (200 مليار دولار)، والمجموعة الدولية الأميركية (250 مليار دولار)، وبرنامج إغاثة الأصول المتعثرة للبنوك (700 مليار دولار)، أصبح لدينا الآن أُما لكل عمليات الإنقاذ: مبلغ التريليون دولار (التريليون= مليون مليون) الذي خصصه الاتحاد الأوروبي بالاشتراك مع صندوق النقد الدولي لإنقاذ بلدان منطقة اليورو المتعثرة. قبل ذلك تعودنا على اعتبار المليار دولار (ألف مليون) مبلغا ضخما: أما الآن فيبدو أن التريليون أصبح يشكل وحدة الإنقاذ المعتادة الجديدة.

إن الحكومات التي أنقذت الشركات الخاصة أصبحت الآن في حاجة إلى من ينقذها، ولكن ماذا قد يحدث حين يخبو الاستعداد السياسي لدى ألمانيا وغيرها من البلدان الدائنة المنضبطة- وأكثرها الآن من الأسواق الناشئة- لتمويل مثل عمليات الإنقاذ هذه؟ ومن قد يسارع آنئذ إلى إنقاذ الحكومات التي أنقذت البنوك والمؤسسات المالية الخاصة؟ الواقع أن الآليات العالمية للديون أصبحت اليوم أشبه بعملية احتيال ضخمة.

فرغم أن العلاج الصحيح المطلوب لتجنب الدمار المالي معروف، فإن العائق الرئيس الذي يحول دون الانضباط المالي هو أن الحكومات الضعيفة في أنحاء العالم المختلفة تفتقر إلى السلطة السياسية اللازمة لتنفيذ سياسة التقشف. والجمود السياسي في واشنطن وفي كونغرس الولايات المتحدة يبرهن لنا على غياب الشراكة المطلوبة لعلاج القضايا المالية الأميركية، وفي المملكة المتحدة أسفر البرلمان "المعلق" عن تشكيل حكومة ائتلافية من المتوقع أن تجد صعوبة كبيرة في محاولة فرض الانضباط المالي.

وفي ألمانيا خسرت المستشارة أنجيلا ميركل الانتخابات في إحدى الولايات الرئيسة بعد إنقاذ اليونان، وفي اليابان تبدو الحكومة الضعيفة غير الفعالة وكأنها تعيش حالة من إنكار حجم المشكلة التي تواجهها. واليونان ذاتها تشهد أعمال شغب في الشوارع وإضرابات في المصانع؛ ومن المؤكد أن فرض الانضباط المالي في البرتغال وإيرلندا وإيطاليا وإسبانيا سيكون مؤلماً على الصعيدين السياسي والاجتماعي. وهذا يعني أن القيود السياسية قد تمنع تنفيذ سياسة التقشف المالي والإصلاحات البنيوية.

ونتيجة لهذا فمن المرجح أن يلازمنا "اقتصاد الأزمة" لمدة طويلة، والواقع أن الأزمة المالية الأخيرة لم تنته بعد، والأسوأ من ذلك أن الدواء الذي استخدم لعلاجها ربما كان ساماً إلى حد ما. ويبدو أن هذا الدواء جعل المريض أكثر ضعفاً وأشد إدماناً للعقاقير الخطيرة، بل أقل مقاومة للسلالات الجديدة من الفيروس الذي قد يكون فتاكاً في بعض الحالات.

 * نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، رئيس "مرصد روبيني للاقتصاد العالمي"، والمؤلف المشارك لكتاب جديد بعنوان "اقتصاد الأزمة: مسار السقوط ومستقبل التمويل".

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"