كان هذا هو عنوان الغلاف لمجلة «نيوزويك» باللغة العربية لعدد مارس الماضي، والذي تساءلت فيه: لماذا توقفت حكومات العالم عن الكفاح من أجل الحرية؟ وتحت عنوان «سقوط حقوق الإنسان» استعرض الكاتب «جوشوا كورلانتزيك» أبرز المواقف والأحداث العالمية، فقال: إن «أوباما» خلال جولته الآسيوية في نوفمبر تطرق إلى كل المواضيع الرئاسية ما عدا موضوع «حقوق الإنسان»، وهذا يشكل قطيعة واضحة لنحو 3 عقود من السياسة الأميركية، وليس «أوباما» الوحيد هو الذي يتملص من الكلام عن حقوق الإنسان، ففي مختلف أنحاء أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية تخلت ديمقراطيات عدة عن الدفاع العالمي عن حقوق الإنسان، ولا تذكرها إلا في خطب أو مناسبات اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وأصبح العالم المتقدم يلوذ بالصمت.

Ad

 ففي فرنسا لم يفِ الرئيس «ساركوزي» بالوعد الذي قطعه في حملته الانتخابية بمناصرة حقوق الإنسان، ووضع حد لروابط بلاده بالدكتاتوريين الأفارقة، إذ دعم رئيس الغابون الجديد بالرغم من حدوث تزوير في انتخابه، واستقبل الجنرال الذي شن انقلاباً في موريتانيا «محمد ولد عبدالعزيز»، وأقر وزير خارجية فرنسا «كوشنير» بوجود «تناقض بين حقوق الإنسان والسياسة الخارجية للدولة»، كما سلمت أروربا رئاسة «منظمة الأمن والتعاون» وهي منظمة معنية بترويج حقوق الإنسان في أوراسيا إلى «كازاخستان»، وهي دولة متهمة بانتهاكات حقوق الإنسان، والحكومة الأسترالية التي كانت تعرف من قبل بانتقاداتها الحادة للصين وبورما والأنظمة الأوتقراطية الأخرى، تتعاون الآن معها، واليابان بدل أن تمارس ضغوطاً على كوريا الشمالية تفضل اليوم مقاربة ناعمة معها ومع الصين في تجاهل لمناخ القمع المتزايد فيهما.

 وفي العالم النامي- أيضاً- انكفأت الديمقراطيات الشابة التي بدت من قبل، جاهزة لنصرة حقوق الإنسان، فـ«كولومبيا» أعادت مجموعة الأيغور إلى الصين، حيث أعدموا، و«جنوب إفريقيا» استخدمت تأثيرها في الأمم المتحدة لحماية النظام الهمجي في «زيمبابوي»، و«تايلند» أعادت 3 آلاف شخص إلى «لالوس»، حيث تعرضوا للاضطهاد.

 لقد انهار عصر الدفاع العالمي عن حقوق الإنسان بسبب منهج «البراغماتية» الذي فرضته «الأزمة المالية العالمية»، وبسبب أن «القادة الكبار» في العالم أصبحوا أكثر تردداً في التحدث جهاراً في قضايا حقوق الإنسان.

 ويستطرد الكاتب ليقول: في هذه الأزمنة العصيبة، يبدو الدفاع عن حقوق الإنسان، وكأنه ترف، لاسيما عندما تكون بعض البلدان التي يعتبر التعاون من جانبها، أساسياً لإعادة بناء الاقتصاد العالمي، مثل الصين وكازاخستان الغنية بالنفط، بين أسوأ منتهكي حقوق الإنسان، فكان «بلير» يسعى إلى تحسين الحكم في إفريقيا كأولوية في حكومته لكن خلفه «براون» غارق في إنقاذ الاقتصاد من جبل الديون الذي يرزح تحته، وفي الولايات المتحدة تحاذر إدارة أوباما من إثارة نفور الشركاء المتحملين في الخارج، وفي تسعينيات القرض الماضي كان القادة المبشرون بالتكنولوجيا يراهنون على أن التكنولوجيا سوف تدعم حقوق الإنسان ضد الحكومات القمعية، وحذر «كلنتون» بكين من أن ضبط الإنترنت سيكون صعباً، وساعد موقعا facebook وtwitter المتضاهرين الإيرانيين على نشر أخبارهم للعالم، لكن الأنظمة السلطوية سرعان ما نجحت في مراقبة الإنترنت وحظرها.

و"الجدار الناري العظيم» في الصين واسع جداً لدرجة أن معظم مستخدمي الإنترنت الصينيين ليس لديهم أدنى فكرة عن المعلومات التي تفوتهم، واستعانت بلدان أخرى باختصاصيين صينيين لتتعلم كيف تصنع جداراً نارياً عظيماً، والهجمات التي يتعرض لها محرك البحث «google» في الصين معروفة، ولكن لم يقف أي عملاق في «سيليكون فالي» موقفاً داعماً له علناً.

 إيران نجحت في التشويش على برامج إذاعتي «دويتش» الألمانية و«بي بي سي» البريطانية، وتمكنت من عرقلة استخدام الهواتف الجوالة إضافة إلى الرقابة على الإنترنت، بل تمكنت من التشويش على بث القمر الأوروبي، و«أوباما» يعتقد أن بإمكانه إيجاد أرضية مشتركة مع الجميع حتى مع البشير في السودان، وكيم يونغ في كوريا، ويريد أن يخفض ورجاله «التكاليف والمخاطر في الخارج عبر الحد من التزامات أميركا» وهم أميل لقبول الطرح المتداول في الساحة الأميركية «بإمكان الولايات المتحدة أن تنشر الديمقراطية بطريقة أفضل عبر التحول مثلاً للديمقراطية في الداخل».

ويهمني أن أضيف هنا ملاحظة أخرى هي أن الإدارة الأميركية الحالية أقرب لتفهم المنعطف الأوروبي الانتهازي «دعوى الشعوب المنكوبة بأنظمتها التسلطية، تحاول نزع شوكها من ظهرها بنفسها لأن الديمقراطية تتعارض مع ثقافاتها وخصوصياتها ولا تصلح لها»، ولعلنا نتذكر مقالة الكاتب الأميركي «زكريا» التي حذر العرب من الديمقراطية لأنها تتيح الفرصة للمتطرفين الوصول إلى السلطة وفرض المزيد من القيود على الحريات- في معظم الديمقراطيات- أصبح الرأي العام اليوم أقل اهتماماً بحقوق الإنسان العالمي، فمع تسجيل البطالة مستويات مرتفعة، حول سكان الديمقراطيات أنظارهم نحو الداخل لمكافحة الهجرة، وباتوا يعيرون اهتماماً أقل لما يجري في إيران والسودان وكوريا الجنوبية، كما أن 99% من الأميركيين يرون أن على الولايات المتحدة الاهتمام بشؤونها الخاصة، وترك الدول الأخرى تحل مشكلاتها بنفسها، حسب استطلاع عن مركز بيو في ديسمبر، وهي النسبة الأكبر عبر 4 عقود تعبر عن مشاعر انعزالية، وقبل عقد كان السياسيون في وزارات الخارجية الأميركية والبريطانية والألمانية يرتقون عبر التركيز على حقوق الإنسان، أما اليوم فالدفاع عنها لا يوصل إلى أي مكان، بل تصبح المكاتب الحكومية التي تركز على حقوق الإنسان مكانا للدبلوماسيين الأضعف.

 لقد بدأت الصين وروسيا تحريف مفهوم حقوق الإنسان بطرق تؤدي إلى إفراغه من معناه فيما يسمى «ديمقراطية مضبوطة» هي عبارة عن «سلطوية مغلقة بطبقة رقيقة من الحريات الاجتماعية» وتدير الصين الآن برامج تدريسية يشارك فيها نحو «15» ألف مسؤول أجنبي سنوياً تعلمهم: كيف استطاعت أن تفتح اقتصادها من دون إفساح المجال أمام تحرر سياسي حقيقي؟ كان العام الماضي من أصعب الأعوام أمام المعارضين البارزين منذ عقود بحسب تقرير فريدم هاوس، وشهد تراجعاً عالمياً في الحريات السياسية والمدنية للسنة الرابعة على التوالي وهو التراجع الأطول منذ «40» عاماً.

 ويختم الباحث تقريره: سوف تزداد الأمور صعوبة بزيادة الركود العالمي، وإذا كان بإمكان الصين تعطيل الديمقراطية الآن فكيف إذن أصبح اقتصادها الأكبر في العالم؟!

أما الباحث: «استفيان ثيل» فيطلق صيحة تحذير أخرى خاصة بأوروبا، فيقول في مقال بعنوان «الخيار الأوروبي الحاسم» إنه مع تنامي موجة رهاب الأجانب، فإن على أوروبا أن تقرر: إما أن تفتح أبوابها وتزدهر وإما  أن تغلقها وتدفع الثمن! ويستطرد قائلاً: خلال الأشهر الماضية اجتاحت أوروبا موجة من العصبية العرقية، ففي ايطاليا أخلت الشرطة مخيمات المهاجرين الأفارقة، وفي بريطانيا تعهد زعيم المحافظين «كاميرون» بالحد من المهاجرين بنسبة 75% إن تم انتخابه، وفي فرنسا أثار «ساركوزي» جدلاً صاخباً حول «الهوية الفرنسية» تضمن كلاماً عن حظر البرقع وغيره من أنواع التهجم على الأقليات، وبلجيكا في طريقها لتصبح أول بلد أوروبي يفرض الحظر الشامل للنقاب، وحتى في سويسرا التي لطالما كانت من البلدان الأكثر ترحيباً باللاجئين، اتخذت الأمور منحى قبيحاً حيث أدى استفتاء عام إلى تعديل دستورها لحظر المآذن، وهي قد حظرت النقاب أخيراً، وهكذا يتم استهداف المهاجرين الذين غالباً ما يأتون من بلدان إسلامية.

 لقد أصبح الخوف القوة المهيمنة على أوروبا بسبب الأزمة الاقتصادية التي أبدت القلق من سرقة الأجانب للوظائف وإثقالهم بنظام الرعاية الاجتماعية، لكن العدائية تعكس تحولاً أعمق، فالهجرة إلى أوروبا ازدادت، إذ وصل إلى أوروبا منذ عام 1990م «26» مليون مهاجر مقارنة بـ«20» مليوناً في أميركا ساهموا في تحفيز الازدهار الاقتصادي، وأعادوا رفع معدلات الولادة المنخفضة في القارة الأوروبية، وغيروا المدن من مدريد إلى استوكهولم، وتقدر المفوضية أن الهجرة أضافت «50» مليار يورو إلى الناتج المحلي الإجمالي، لكن ليس الجميع مقتنعين بهذه المكاسب، فالمهاجرون يثيرون مخاوف عميقة من فقدان الهوية الأوروبية وبسببها بدأت الحكومات باتخاذ إجراءات ضد الوافدين الجدد، في حين أن بلدان مثل إسبانيا تدفع الأموال للمهاجرين للعودة إلى بلادهم، لكن مع تنامي هذه النـزعات ستواجه أوروبا خياراً صعباً، إما أن ترضي مواطنيها الغاضبين وتغلق أبوب الهجرة، وإما أن  تتحدى الرأي العام وتفتحها أمام المزيد من المهاجرين الذين يتمتعون بمهارات أفضل، هذا أمر سياسي صعب لكنه ضروري للنهوض الاقتصادي في القارة والحفاظ على حيويتها على المدى البعيد كما تفعل كندا وأستراليا والولايات المتحدة، لكن إذا أوصدت الأبواب فسينتهي المطاف مثل اليابان التي ينخفض عدد سكانها، وتسودها مشاعر رهاب الأجانب لأن حاجة أوروبا إلى المهاجرين مرتبطة بتركيبتها الديمغرافية، فسكانها يشيخون بسرعة كبيرة.

 وهذا العام سيفوق عدد الوفيات عدد الولادات في «10» دول من الدول الأعضاء إلى 27 في الاتحاد الأوروبي، وبحلول عام 2035 سيصل الفارق بين الوفيات والولادات إلى مليون شخص سنوياً، فحتى الآن تواجه المؤسسات التجارية في كل القارة نقصاً مزمناً في العمال المهرة، وهناك اليوم مع الانكماش «4» ملايين وظيفة شاغرة، ومع مرور الوقت ستتفاقم المشاكل وستحتاج أوروبا- وفقاً للمفوضية- إلى «20» مليون مهاجر ماهر خلال السنوات الـ«20» المقبلة.

 والسياسات الذكية أولا تقضي بمضاعفة جهود الاندماج والحرص على ألا تتسبب الأزمة بتخلف الأقليات بشكل أكبر عبر زيادة الإنفاق على برامج التعليم اللغوي والتدريب المهني، وثانياً: على أوروبا تغيير سياساتها المتعلقة بالهجرة لجعل أوروبا أكثر جاذبية للمهاجرين من ذوي المهارات، ومن خلال إقناع عدد أكبر من الطلاب الأجانب الذين يدرسون في جامعاتها بالبقاء.

 وثالثاً: بالحد من الاعتماد على نظام الرعاية الاجتماعية من خلال فرض قيود تحد من استخدام المهاجرين له، وما يجب تذكره أن الهجرة أشبه بالهندسة الاجتماعية، والبلدان التي تحسن إدارة مسألتي الهجرة والاندماج تحصد منافع كبيرة، وتلك التي تفشل تدفع الثمن.

الآن دعونا نتساءل: ماذا عن وضع حقوق الإنسان في العالمين العربي والإسلامي؟ لقد مر شهر مارس وفيه احتفل العالم بحقوق المرأة ومكاسبها، ولكن في مصر ومع الانفتاح الاجتماعي اجتمع «334» مستشاراً في الجمعية العمومية لمجلس الدولة وقرروا في تحالف غير مقدس حرمان المرأة من القضاء، أي حكموا بحرمان أكثر من نصف الشعب المصري «44 مليون امرأة» من حق طبيعي، ومن اختار اليوم رفض المرأة قاضية، سيشهر- غداً- «الفيتو» في وجه تعيين القبطي قاضياً كما يقول عصام عبدالله.

 وفي السعودية أعلن شيخان من مشايخ الدين الحرب على الاختلاط، أحدهما قال بقتل من يبيح الاختلاط، والآخر طالب بهدم المسجد الحرام منعاً للاختلاط، أما حقوق الأقليات الدينية فهي معرضة للانتهاكات المستمرة في العديد من الدول العربية خصوصا في العراق- موطن الأقليات التاريخية- وهي انتهاكات دفعت مجموعات كبيرة للهجرة وترك الوطن حفاظاً على حياتهم وأرواحهم.

 لقد أصبح أمراً عسيراً الحديث عن حقوق الإنسان في ظل الموجات المتلاحقة من الفكر المتطرف المهيمن على الساحة، وعمليات الإرهاب التي تستهدف الأبرياء في كل مكان، في المسجد والسوق ووسائل النقل والمطاعم وغيرها، لا أحد معنياً بحقوق الإنسان في ظل هذه الأوضاع، إنما همّ الجميع السلامة والأمان، وأما الإصلاح السياسي والديمقراطي فيبقيان مغيبين، فقد فترت حماسة الناس، بل حتى النخب الثقافية تجاههما، وبعضهم انقلب وتحول إلى المطالبة ببدائل أخرى، ولا نستطرد أكثر حتى لا يدفعنا التشاؤم، كما دفع النيوزويك للقول بنهاية حقوق الإنسان.

 لا لن نقول: وداعاً لحقوق الإنسان، ونظنها انتكاسة بل سترجع الأمور إلى نصابها الصحيح، لأن قانون الله في الأرض يقضي بأن الزبد يذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث فيها، مهما كانت المرارات والظروف غير العادلة.

 *كاتب قطري