لا أكاد أصدق أن مجلس الأمة المفترض أنه يحتوي نخبة من أهل الرأي والسياسة، والمفترض أنه المكان الأول للنقاش العقلاني الهادئ، يتحول يوماً بعد يوم إلى حلبة مصارعة تنتفي فيها اللياقة والأصول، وتثير الفتن بدلاً من إخمادها، وتحرض الناس على الكراهية بدلاً من أن تقرب بينهم تحت سقف الأخلاق والمواطَنَة والقانون.

Ad

لا أكاد أصدق أن الكويت التي بنيت على الإيمان والاعتدال في ممارسة الدين والعادات صارت مسرحاً للصراعات المذهبية، فهذا يرفع بيرق السُّنة المتطرفين وذاك يقابله ببيرق التطرف الشيعي، وكأن ديننا ليس واحداً ولم نعش معاً في أرض الأجداد، ولا انتبهنا إلى التقدم والحضارة والحداثة، ولا تعلمنا من غيرنا التجربة المرة للغلو والتطرف وما ينجم عنها من تخلف وفتن وأحقاد.

عيب أيها السادة النواب. عيب ما حصل أمس وفي الجلسات الأخيرة فليس مقبولاً أن ينتصر النواب لوزير لمجرد انتمائه القبلي كما حصل أثناء جلسة الكهرباء وليس مقبولاً التصريحات الطائفية والمذهبية، التي إن دلت على أي شيء فإنها تدل على تعصب مصدره الجهل، وقلة مسؤولية لا تقدِّر واجبات المشرِّع وممثل الأمة والناس، وانتهازية مقززة هدفها إثارة الغرائز لكسب الشعبية ولو على حساب الدولة والوطن والوحدة الوطنية والاستقرار.

أصارحكم بأنني حزين وغاضب لما سمعته وقرأته في الأيام الأخيرة عن النزعات القبلية العمياء، إذ لا يجوز أن تكون رابطة الدم معياراً للتضامن كما حصل أمس في قاعة عبدالله السالم وأروقة المجلس. وأذكركم بأن المجالس شهدت صراعات منذ بدأت تجربتنا الديمقراطية، لكنها صراعات آراء وأفكار واتجاهات تدخل في طبيعة العمل البرلماني من جهة وتعبر عن مجتمعنا من جهة أخرى، لكنها لم تشهد إسفافاً بهذا الشكل لأنكم أيها السادة النواب بالغتم ولم تتركوا شيئاً  للدهماء، وتجاوزتم الخطوط الحمر، وهي: السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية واحترام الدستور.

ومثلما أرفض أن أصدق أن مسألة حيوية مثل الكهرباء التي يعاني الناس انقطاعَها تتسبب في فزعة قبلية بلا مبررات فإنني لن أصدق أن سؤالاً في أحد اختبارات الشهادات كشف الجوف المهترئ لمجتمعنا، ولا أن لوماً وجهته وزيرة التربية إلى المتطرفين الذين وضعوا السؤال - مع علمهم بما يثيره من حساسيات - هو الذي أطلق العنان لهذا السجال المقرف. لكنني أقول إن ما حصل كشف الفتنة النائمة التي لا يتورع بعض النواب عن إيقاظها لأتفه الأسباب.

على أي حال، إنها مناسبة لمناشدة الحكومة ووزيرة التربية الانكبابَ على ورشة تنقية المناهج من سُمِّ المتطرفين ومن نقاط الخلاف بين المذاهب. فنحن دولة مؤمنة لكنها ليست دولة دينية، بل ذات دستور مدني. ونحن دولة مؤمنة لكنها ليست أكثر إيماناً من نهج الأزهر الشريف. ونحن دولة مؤمنة، لكن الإيمان لدينا يعني الانفتاح والتسامح والاعتدال ولا يتعارض مع دستورنا الوضعي الذي يفرض احترام كل العقائد وحريات كل الطوائف والمجموعات والأفراد تحت سقف القوانين.

أيها السادة النواب. دعوني أعتبر ما حدث في جلسة الكهرباء وأمس سقطة استثنائية. ودعوني أعتبرها مناسبة للتذكير بأن الولاء الحقيقي للكويتيين هو للكويت وليس للقبائل ولا للطوائف، وأن كل اتجاه نحو التطرف قبلياً أم سنياً أم شيعياً لا ينتج منه إلا تدمير المجتمع والولاء الوطني. فنحن أمة وسط ودولة دستور، وأي محاولة للإخلال بهذين المبدأين سيجعلنا فريسة للتنابذ الداخلي وللتدخل الخارجي وسيفقدنا مقومات الوطن المستقل وموقعنا بين دول العالم الذي حصلناه بفعل تراكم تجربتنا الديمقراطية وخيراتنا التي وهبها لنا الله وخصوصاً بفضل وحدتنا الوطنية. لذلك، فلتصمت الأصوات المتطرفة، وليُمسك المتفوِّهون بلغة القبلية والطائفية والمذهبية المقيتة ألسنتهم، وليكفوا عن التحريض الرخيص. وليعلم المتطرفون أنهم لن يحققوا مآربهم ولن يجلبوا لأنفسهم وللبلاد إلا الضرر، فأكثرية الشعب والحكم هي أكثرية العقل والوحدة والاعتدال، وستكون لهم بالمرصاد.