العناية الإلهية وحدها هي التي أحاطت بالأمير محمد بن نايف- مساعد وزير الداخلية السعودي للشؤون الأمنية- وحفظته من شر أخطر مكيدة دبرتها «القاعدة» مستهدفة حياته، كان الأمير على بعد خطوتين من قنبلة بشرية متفجرة، شاب عشريني مطلوب أمنياً جاءه بزعم أنه يريد تسليم نفسه والتوبة على يدي الأمير وأخذ الأمان لزملائه المطلوبين في قائمة الـ85 الأمنية، والذين يرغبون في تسليم أنفسهم والعودة إلى الوطن.
وبعدما استوى في مجلسه بقرب الأمير طلب أن يتصل بزملائه ليبلغهم بالأمان، وفي أثناء الاتصال فجر الانتحاري نفسه، وبلغ شدة الانفجار أن سقف المجلس فوق مقعد الانتحاري بدت فيه فتحة صغيرة، لكن الأمير نجا بالعناية الإلهية ولم يصب بأي مكروه، بينما تقطع الانتحاري إلى أشلاء «ولا يحيط المكر السيئ إلا بأهله». التساؤلات المطروحة: ما دوافع وأهداف «القاعدة» في استهداف الأمير؟ أولاً: الدافع الإعلامي الدعائي: فالأمير يمثل صفتين بارزتين فهو من الأسرة الحاكمة، وهو رجل الأمن الثاني، واشتهر بأنه «مقلم أظفار» «القاعدة» بسبب النجاحات الأمنية المشهودة له في ضرب خلاياها، ورجل بهذه الحيثيات هو «صيد» ثمين بالنسبة لـ«القاعدة» التي لو تمكنت من تحقيق هدفها وأصابت الأمير بمكروه لأحدث ذلك دوياً إعلامياً كبيراً أكسبها نجاحاً على صعيدين: سعودي في اختراقها للأمن السعودي وزعزعة استقرار الدولة، وهما هدفان بارزان تسعى إليهما «القاعدة» منذ أن بدأت عملياتها في العليّا بالرياض عام 1995، وصعيد خارجي تحقق «القاعدة» نجاحاً يرد إليها اعتبارها بعد تعرضها لسلسلة من الإخفاقات التي منيت بها وحلفاءها في أفغانستان وباكستان والعراق واليمن والسعودية وانحسار شعبيتها المتزايدة. ثانياً: الدافع الانتقامي: صممت «القاعدة» أن توجه ضربة انتقامية سريعة بعد الضربة الموجعة التي ألحقها الأمن السعودي بالقبض على شبكة مكونة من 44 قيادياً، يحملون شهادات عليا كانت وراء معظم العمليات الإرهابية التي ضربت السعودية، كانت تجند الشباب وتستغل العمل الخيري، وتمول العمليات الإرهابية، هذه الضربة القاصمة لظهر «القاعدة» استوجبت انتقاماً سريعاً وبأسلوب مختلف عبر إرسال قنبلة بشرية تفجر نفسها في الهدف المنشود، ونجحت القنبلة في الاقتراب من هدفها، لكن الأمير نجا وارتد مكر «القاعدة» عليها. ثالثاً: الدافع التنظيمي الوقائي: أرادت «القاعدة» حماية تنظيمها من تقلص عناصرها ومعتنقي أفكارها الذين يريدون تسليم أنفسهم عبر سياسة الباب المفتوح أمام التائبين من أتباع الفكر الضال، والتي تنتهجها السعودية، وذلك بقطع الطريق على التائبين عبر استهداف الأمير شخصياً، الذي كان يقوم باستقبال الراغبين في التوبة ومساعدتهم في تخفيف العقوبات عنهم، وتسهيل زيارات الأهل لهم والإفراج المؤقت عن بعضهم لأسباب إنسانية، وإعانة أسرهم مادياً ثم إخضاعهم لبرنامج المناصحة، وهو برنامج يستهدف تنظيف عقول هؤلاء الضالين من سموم التطرف. وسياسة الباب المفتوح نجحت في استمالة العديد من الشباب الضال وكسبهم، لذلك أرادت «القاعدة» إغلاق هذا الباب باستهداف الأمير شخصياً، وفي القول المأثور «ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه»، وقال الله تعالى: «ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم»، وقال عزل وجل: «ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله»، وقال سبحانه: «فمن نكث فإنما ينكث على نفسه». والبغي والمكر والنكث سمات ثلاث لازمت «القاعدة» في كل عملياتها التي أودت بآلاف الضحايا، تضاف إلى ذلك سمة رابعة كشف عنها د. فضل- منظر الجهاديين التائب- هي: الإسراف في سفك دماء المسلمين بالجملة، ولذلك تستهدف «القاعدة» دئماً التجمعات البشرية كالمطاعم والمساجد والمزارات وغيرها من الأهداف الرخوة. وقد أفشل الله كيد «القاعدة» ولم يتحقق لها أي هدف فلا هي نجحت في استهداف الأمير، ولا هي استطاعت أن توجة ضربة انتقامية، ولا هي تمكنت من قطع الطريق على باب التوبة بدليل أنه لم يمر أسبوع على الحادث الإجرامي الأثيم حتى سلم أحد المطلوبين أمنياً نفسه، وهو رابع مطلوب في قائمة الـ85 يسلم نفسه، كما أن وزارة الداخلية أعلنت أن هذا الحادث لن يغير ما اعتاد عليه أبناء الوطن من سياسة الأبواب المفتوحة مع ولاة الأمر، وأكد الأمير نايف أن الحادث الإجرامي لن يزيدنا إلا إصراراً على محاربة الفكر الضال و«تجفيف منابعه». الآن ما دروس ودلالات هذا الحادث الإجرامي الأثيم؟ 1- يثبت هذا الحادث أنه لا عهد محترما مع «القاعدة»، فانتحاري جدة أمنه الأمير شخصياً عبر اتصال تلفوني طويل، وطمأنه وقال له حسب نص المكالمة المنشورة «إني أسامحك، أنت ولدنا وأبرك ساعة نبي نكسبك وتعود ولا أحد يستغلكم»، وأرسل له طائرة خاصة لنقله من اليمن إلى جدة، ورحب بمقابلته في مجلسه الخاص، وأمر بعدم تفتيشه، ولكن كل ذلك لم يجد فيمن تأصل في نفسه فكر الضلال، فقابل الإحسان بالإساءة، وقام بالغدر والخيانة، وقتل نفسه أبشع قتلة، بكبسولة متفجرة في مكان حساس في جسده، ما أبأسها من قتلة!! 2- إن «القاعدة» تقترف كل المحرمات وتنتهك كل المقدسات، فهي لا تبالي بحرمة الشهر ولا بقدسية المسجد، ولا بحرمة النفس البشرية، ولا باحترام العهود والمواثيق. 3- عدم جدوى «المناصحة» والملاينة والتسامح مع من تأصل الفكر العدواني في نفسه وتمكن الشر منه، إذ لا أمل يرتجى من تظاهره بالتوبة، فهذا الشاب العشريني الملتزم دينياً، والذي يقول عنه والده المصدوم نفسياً، وقد انفطر قلبه حزنا عليه، وكان يدعو ربه ألا يكون ابنه هو الفاعل قال: «إن عبدالله وصل إلى المستوى الثالث في تعليمه ثم انقطع، وكان شقيقه إبراهيم في كلية العلوم بجامعة الملك سعود، وكانا مولعين بعمل الخير، وفي مثل هذا الوقت من كل عام كانا يقفان عند إشارة المرور لتوزيع وجبات الإفطار على الصائمين». ترى ما الذي غير الأخوين وحوّل عبدالله إلى قنبلة بشرية؟ يعجب المرء ويندهش كيف صبر عبدالله على زرع كبسولة متفجرة في جسده؟! وفي سبيل ماذا فجر نفسه؟! 4- «القاعدة» طورت أساليبها الإجرامية واختيار تكتيك «القنبلة البشرية» لاغتيال الأمير تكتيك جديد، وزرع الكبسولة المتفجرة في فتحة الشرج أسلوب مستوحى من مهربي المخدرات الذين يلجؤون إلى إخفاء المخدرات إلى أماكن حساسة من أجسادهم أوفي معدتهم. 5- إن السياسة المتبعة من قبل الحكومة السعودية في معالجة الوباء الإرهابي والقائمة على مرتكزين: الأول، ملاحقة الخلايا الإرهابية وإجهاضها وضرب عناصرها، إذ تمكن الأمن السعودي من إفشال 200 عملية إرهابية كانت تستهدف أمن السعودية ومنشآتها، والثاني، سياسة الباب المفتوح أمام من يريدون التوبة من معتنقي الفكر الضال، وتقديم بعض التسهيلات لهم، ثم إخضاعهم لبرنامج المناصحة- الذي يثير جدلاً في الوسط السعودي- بهدف ضمان عودتهم إلى الطريق الصواب وإقلاعهم عن الفكر الضال. إن هذه السياسية وإن حققت نجاحات كبيرة في جابنها الأمني، ونجاحات أقل في جانبها الفكري المتمثل في برنامج المناصحة إلا أنه يبقى سياسة «علاجية» قد تجدي فيمن ابتلي بهذا المرض الإرهابي، لكنها لا تجدي كسياسة «وقائية» ولا تحقق «الأمن الفكري» ولا توصل إلى الهدف المنشود المتمثل في «تجفيف منابع الإرهاب». والمطلوب اليوم تطوير هذه السياسة إلى الأسلوب الوقائي حماية للأجيال الجديدة، وتعزيزاً لمناعتهم في مقاومة هذا الوباء، وهذا يتطلب جهوداً كبيرة تركز على تفكيك البنية التحتية للفكر العنيف أو المتطرف «منابر، مناهج، فتاوى، مواقع الكترونية وقنوات فضائية، كتب وأشرطة، خطب دينية» والتي تعد الحاضنة الطبيعية لفكر الإرهاب. وما لم تتعزز الجهود في مواجهة الفكر المتطرف وهز قواعده وأبنيته وردم منابعه فإن سلسلة القوائم الأمنية لن تنتهي، وما إن تُصفّى قائمة حتى تتلوها قائمة أخرى، فمن هانت عليهم الحياة فزرعوا عبوة ناسفة في أجسامهم، هم نتاج تربية بائسة وينابيع فكرية مسمومة وخطاب ديني متطرف وفتاوى محرضة وتعليم ناقم على الحياة والمجتمع والحضارة. *كاتب قطري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله
07-09-2009