لا يكفي أن تسجل الميزانية العامة فائضاً إضافياً عن السنة الماضية لنقول إن أوضاعنا الاقتصادية والمالية بخير، ويجب ألّا يغّرنا بقاء سعر برميل النفط في حدوده الحالية المجزية لنغسل أيدينا من وجوب مواجهة الأزمة العاصفة بالاقتصاد العالمي، ونحن جزء منه، مطمئنين إلى قدرتنا على دفع الرواتب وإسكات الأفواه المطالبة بزيادات وامتيازات وإلى مهارتنا في صوغ خطط التنمية مقرونة بوعود المشاريع وتلميع الشعار الممل: "تحويل الكويت إلى مركز مالي".
وإذا كان مطلوباً منا المبادرة إلى خطوات وقرارات تستشرف مستقبلنا الاقتصادي والمالي وتضعنا على سكة الدولة المعافاة والمنطلقة في ميدان التنمية المتنوعة الأهداف، فإنه حريٌّ بنا عدم الانزلاق إلى مقترحات تدمّر الصحيح القائم، وهو قليل، وتكبل اقتصادنا بتشريعات تنتمي إلى مفاهيم اقتصادية عفا عليها الزمن، وتُرجعنا إلى وراء بدل أن نكون طليعيين متطلعين دوماً إلى أمام.فبينما تزداد قناعات جهابذة الاقتصاد والمال والدول المتقدمة صاحبة الخبرة بضرورة تقليص القطاع العام، ترانا نُصرّ على توسيعه ليلتهم معظم الدخل، لا بل نفاجأ بمقترح تشريعي يزيد من تدخله في الشأن الاقتصادي بدل أن يبقى ناظماً للنشاط الخاص.هذا النهج الارتدادي تمثل في الأيام الأخيرة بمقترح تشريعي بزيادة رأسمال الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية من ملياري دينار إلى عشرة مليارات وتخويله إقراض المؤسسات العامة القائمة على تنفيذ مشاريع الرعاية السكنية، إضافة إلى تقديم القروض إلى الشركات المساهمة الكويتية التي ستؤسسها الدولة وتطرح أسهمها للمزاد في سوق الأوراق المالية.وإذا كان الخبراء الماليون أبدوا ملاحظاتهم القيّمة على هذا المقترح مفصّلين مخاطره لجهة تأميم الائتمان وإخلاله بمبدأ تكافؤ الفرص في المنافسة في القطاع الخاص، وعدم وفائه بضرورات الرقابة لأنّ الصندوق الكويتي سيادي غير خاضع لرقابة "المركزي" إضافة إلى انتفاء ما يوجب هذه الخطوة في ظل استعداد المصارف للتمويل وتمتعها بالسيولة والخبرة، فإننا ننطلق من ذلك لنقول إنه في حال وصول هذا المقترح إلى خواتيمه التي يتوخاها واضعوه، فإننا سنكون قد وجهنا رصاصة الرحمة إلى مبدأ الخصخصة من الأساس، في وقت لانزال نشكو من قانون الخصخصة الذي أقرته الحكومة والذي يصعب وصفه بأقل من أنه وُلِد معيباً بعدما أفرغ من محتواه.فبالله عليكم كيف لنا أن نتفاءل بما تصنعه أيدي حكومتنا ومجلس الأمة في هذا المجال بينما يعلن رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون نيته إجراء تقليص إضافي في القطاع العام وتؤكد انجيلا ميركل أن ألمانيا ستخفض قطاعها العام 50 في المئة إضافية؟وبالله عليكم كيف يجب أن تكون ردة فعلنا حين نرى أن العالم بأسره يتجه إلى الخصخصة بينما نحن نوسع القطاع العام انطلاقاً من موضوع الائتمان؟دعوني أورد مثلاً عشته قبل أكثر من عشر سنوات. ففي عام 1999 ذهبنا، عبدالله النيباري وعبدالوهاب الهارون وأنا، حين كنا أعضاء في اللجنة المالية البرلمانية للاطلاع على برنامج التخصيص في بريطانيا، وقضينا أربعة أيام مليئة بالمعاينة واللقاءات. وسمعنا من محدثينا أنه لو لم تطبق مارغريت تاتشر الخصخصة منذ الثمانينيات لما خرجت بريطانيا من حال الكساد والبطالة والإضرابات التي كانت سائدة قبل وصول "المرأة الحديدية" وانتصارها على حزب العمال.وأكد محدّثونا أنه لولا الخصخصة لتراجعت بريطانيا إلى مصاف الدول العادية في أوروبا لتكون، على سبيل المثال، مقراً للمحكمة الدولية أو للاتحاد الأوروبي لكرة القدم (وليس الاتحاد الدولي)، لكنها بالخصخصة استعادت قوتها الاقتصادية وازدهرت كمركز مالي واسترجعت هيبتها الضائعة وروحها المفقودة وأصبحت مؤسساتها المتهالكة من أمثال "بريتش ايرويز" و"بريتش تيليكوم" و"بريتش غاز وكهرباء" من أعظم الشركات العالمية المخصخصة.لسنا في بريطانيا، ولسنا من دعاة نسخ التجارب حتى ولو كانت ناجحة، لكن هل يعقل أن تكون لدينا شركات عملاقة تابعة للقطاع الخاص نضيق ذرعاً بها ونريد تدميرها؟نحن لا نتحدث اليوم عن خطأ أصلي حين توسعت الدولة في استثمار النفط المكتشف عبر آليات القطاع العام بدل القطاع الخاص، لكننا نربأ بالحكومة والمجلس عن أن يبقيانا أسرى المفاهيم القديمة والمزايدات الشعبوية وأن لا يعرفا أن القطاع الخاص أكفأ من القطاع العام لسبب بسيط وهو أن للقطاع الخاص ربّاً يحاسبه، في حين أن القطاع العام "حارة كل من إيدو إلو".فهل يرضى المجلس والحكومة على السواء أن يقال إننا لانزال الدولة الاشتراكية الوحيدة في العالم الحر، في حين لم يتبق بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والشيوعية أي دولة اشتراكية، بما في ذلك الصين، باستثناء كوريا الشمالية، حيث الأسرة الحاكمة تتحكم في البلاد؟تريدون دليلاً إضافيا؟ لاحِظوا فقط أن الأزمة المالية العالمية دفعت كل الدول إلى أن تصرف من المال العام للحد من التداعيات، وانتبهوا إلى أننا الدولة الخليجية الوحيدة التي لم "تحل كيسها" ولم تصرف فلساً في هذا الإطار. والمضحك أن الحكومة قدمت "قانون الاستقرار المالي" إلى المجلس ليضيع في الأروقة ويعلوه الغبار في الأدراج ويصير التصويت عليه في خبر كان. وفي المناسبة من الضروري تذكير الحكومة بأن البورصة تحوي أموالاً عامة كثيرة وأن دعم عدم انهيار الأسعار فيها يحافظ على المال العام. فبورصتنا تهبط بسبب الهلع وفقدان الثقة وغياب من يجب أن يدافع عن صحة هذا القطاع، وهو ليس دفاعاً عن المستثمرين فقط بل هو في الأساس دفاع عن المال العام.خلاصة الأمر أن القرار الصحيح ليس بالتأكيد القرار المريح، وهو في أغلب الأحيان غير شعبي ولا يدغدغ حناجر وأحلام الجماهير... أما مهمة القيادات فهي أن تقود وألا تنقاد.
مقالات
كلمة•: القرار الصحيح ليس القرار المريح
10-06-2010