هل يمكن الحديث عن تنمية حقيقية في ظل استشراء الفساد؟ الجواب هو بالنفي طبعا، إذ إن أي حديث عن عملية التنمية في ظل ازدياد الفساد وانتشاره في مؤسسات الدولة هو حديث إنشائي استهلاكي مرسل فاقد لأي قيمة حقيقية، لأن تجارب دول العالم قاطبة التي سبقتنا في عملية التنمية المستدامة، كماليزيا على سبيل المثال لا الحصر، أثبتت أنه لا يمكن أن يكون هناك تنمية حقيقية في ظل استشراء الفساد، فأدبيات التنمية المستدامة ومكافحة الفساد توضح لنا أن هناك دائما علاقة طردية بين ازدياد معدلات الفساد واستبداد السلطة.
لقد أصبحت للفساد في مجتمعنا، مع كل أسف، ثقافة خاصة للدرجة التي أصبحت معها قيم وثقافة الفساد، والحرمنة، واستغلال النفوذ، والتمصلح من الوظيفة العامة، والالتفاف على القوانين، هي القيم "المحترمة" والثقافة السائدة في مجتمعنا، إذ أضحى الفاسد الأناني يلقب بـ"الذيب" الذي يعرف كيف يتجاوز على القوانين، وكيف ينهب المال العام، ويتمصلح من وراء وظيفته، و"يفيد" بالدرجة الأولى والحصرية "نفسه"، ثم جماعته وقبيلته وطائفته على حساب بقية المواطنين، لأنه يعرف أنه في النهاية لن يحاسب بل قد يُكافأ من خلال تعيينه في مناصب عليا، أو من خلال تنفيعه من المال العام بطريقة أو بأخرى. فالفاسد "الذيب" لدينا لا يحاسب إطلاقا، والشواهد على ذلك كثيرة، إذ إنه، وبالرغم من تراجع موقع الدولة في التقرير السنوي لمؤشرات مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية العالمية، وبالرغم أيضا من كل هذا الحديث المتواتر عن الفساد الإداري والمالي والسياسي الذي تعترف به الحكومة علنا، وتكشفه الأسئلة البرلمانية ولجان التحقيق وتقارير ديوان المحاسبة وتصريحات النواب، فإننا لم نسمع قط بأن مسؤولا عموميا قد أقيل أو نال جزاءه من جراء ضلوعه في عمليات الفساد، وفي المقابل فإن الشخص الشريف والمخلص والمجتهد والملتزم بالقوانين هو الشخص "المسكين الفقير" أو "الغبي" الذي لا يعرف كيف يثري على حساب المال العام أو لا يعرف كيف "يحرق البخور" أو كيف يتزلف وينافق لكي "يوصل" ويحصل على المناصب والجاه والسلطة والمناقصات الضخمة. لقد أصبح هناك في مجتمعنا مراتب وفئات ودرجات للفاسدين والمفسدين، والصغار منهم يستمدون سلطتهم من الفاسدين الكبار من ناحية، ومن استشراء الفساد في مؤسسات الدولة من الناحية الأخرى، وأضحى للفاسدين جميعا بمراتبهم المختلفة شأن عظيم وجاه كبير ومراكز متنفذة في الدولة، وأصبحت التعيينات في أغلب المناصب العليا تعتمد بالدرجة الأولى على مدى قرب الشخص أو بعده من مراكز نفوذ قوى الفساد، ومدى قدرته وتمكنه من ممارسة النفاق والتزلف و"حرق البخور"، وليس على نظام الجدارة أو الكفاءة التي يتميز بها، بل إننا وصلنا إلى الدرجة التي أصبحت فيها حتى العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل، في أغلبها، علاقات مصلحية وانتهازية فاسدة.لذا فإنه يجب أن تتزامن عملية مكافحة الفساد بأنواعه كافة، وبصوره المتعددة دائما وأبدا مع عملية التنمية، إن لم تسبقها، وتكون جزءا لا يتجزأ من برنامج إصلاح سياسي شامل ومتكامل وعلني وشفاف، إذ لا تنمية مستدامة مع وجود الفساد الذي تعترف به حكومتنا، بيد أنها لم تفعل شيئا ملموسا حتى الآن لمحاربته.
مقالات
من يحاسب الفاسدين؟ وكيف؟
14-07-2010