"اصمتوا، رجاءً، فأنتم لا تسدون بذلك أي خدمة"، كانت تلك، مع احترامنا، نصيحة شارلمان لمؤسسة السياسة الخارجية الأميركية، إذ إن كبار المسؤولين فيها يحثون الاتحاد الأوروبي على قبول انضمام تركيا إليه على الفور، لترسيخ العلاقة بين الأتراك والغرب.  

Ad

لا يسر إسداء مثل هذه النصيحة، فقد أصابت الحكومات الأميركية المتعاقبة في قولها إن انتساب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يصب في المصالح الاستراتيجية لأوروبا، لكونها أمّة إسلامية يافعة، قوية وذات نظام علماني رسمي تعبرها قنوات التجارة والطاقة الحيوية. هذا وشجّعت عملية التفاوض بشأن العضوية بحد ذاتها على إصلاحات داخل تركيا، فالأميركيون محقون في أن مثل هذه المبادرات المنفتحة عرضة للخطر حين يقول أمثال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إنه لا مكان لتركيا في الاتحاد الأوروبي. كذلك يصيب الأميركيون في الإشارة إلى أن القادة الأوروبيين تعهدوا مسبقاً بقبول انتساب تركيا في حال استوفت قائمة طويلة من المستلزمات القانونية.  

بالرغم من كل ذلك، لاتزال الأصوات الأميركية التي تتهم أوروبا بخسارة تركيا مذنبة لإفراطها في تبسيط المسألة ولجهلها مدى أهمية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهذه الأصوات تصدر من جميع الجهات. في هذا الإطار، سئل وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، في أثناء زيارته الأخيرة إلى لندن، عمّا إذا كانت التحرّكات التركية الأخيرة بشأن غزة والبرنامج النووي الإيراني تدلّ على أن البلاد "تّتجه نحو الشرق". على حد قوله، إن كانت تركيا تتّجه شرقاً، فهي على الأرجح تقوم بذلك بسبب بعض البلدان في أوروبا "التي ترفض منح تركيا ذلك الرابط العضوي مع الغرب والذي تسعى إليه تركيا".

من جهة أخرى، تحدّث السياسي الديمقراطي هاورد دين بلغة فظّة في إحدى المقالات الجديدة المعدّة للفرع التركي من مؤسسة المجتمع المنفتح، مجموعة ضغط ليبرالية. بحسب دين، إن كان بعض القادة الأوروبيين يقترحون مجرّد "شراكة امتيازية" لتركيا بدلاً من عضويتها الكاملة في الاتحاد الأوروبي، فذلك لأنهم يحاولون التخفيف من حدّة "كراهية الأجانب المتزايدة" في بلادهم، أو حتى يقومون بـ"محاولة سياسية فاضحة ومخزية" لحشد ناخبين من أقصى اليمين.

 وفي إطار مقارنة الاندماج الأوروبي بولادة الولايات المتحدة، يسخى دين في تقديم النصائح: إن كان المواطنون الأوروبيون يعيشون في خوف وقلق، قد يكون من "المفيد جداً" قيام أحزاب سياسية أوروبية بالكامل وإجراء انتخابات مباشرة لرئيس للاتحاد الأوروبي.

أمّا وولتر راسل ميد، من كبار المسؤولين في السياسة الخارجية، فقد أعلن هذا الشهر من يال أن على تركيا اقتراح تخلّيها عن العضوية المباشرة في الاتحاد الأوروبي في مقابل تعهّد أكثر حزماً بضمان نجاحها في المستقبل، والتعبير عن رأيها عملية صناعة القرارات في الاتحاد الأوروبي على المدى القصير.     

يتمتع بعض هذه الشكاوى بشيء من الصحة، ويحاول القادة الأوروبيون أمثال ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التأثير في قواعدهم الانتخابية، وبذلك يشكّكون في أهلية تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويعتقد كثيرون من داعميهم الأساسيين أن الأتراك لا يحق لهم الانتساب لأنهم أجانب (أو بالأحرى مسلمون)، لكن مسألة تركيا قد لا تقتصر على العنصرية.  

أولاً، عبر حث أوروبا على منع الدبلوماسية التركية من الانحراف شرقاً، يخاطر غيتس بدمج عضوية الاتحاد الأوروبي بالدعم للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ففي النهاية، تكن دول أوروبية عدّة بغضاً شديداً للحكومة الإسرائيلية الراهنة، فضلاً عن أنها غير مقتنعة بالعقوبات على إيران، لذلك فإن الغرب كتلة معقّدة، أمّا التحدث عن العضوية الفورية فهو مجرّد هراء لأن أصدقاء تركيا أنفسهم يعلمون أن الأمر سيستغرق عشر سنوات على الأقل، في المقابل، وصلت بعض المسائل إلى حائط مسدود، إذ جمّد الاتحاد الأوروبي فصولاً عدة من المحادثات، بينما ترفض تركيا الاعتراف بقبرص، كدولة عضوة في الاتحاد الأوروبي.

لا يخشى كارهو الأجانب وحدهم احتمال منح الاتحاد الأوروبي العضوية لتركيا، فالانضمام إلى الاتحاد اليوم ليس كما دخول اتفاقية أميركا الشمالية للتجارة الحرة (نافتا). قد يرغب الخبراء الأميركيون في تجربة الاختبارين الفكريين التاليين، المقتبسين عن أدوات الاتحاد الأوروبي في الحياة الحقيقية، وتصوّر كيف سيقنع أي منهما الناخبين الأميركيين وذلك مع أداء المكسيك دور تركيا:    

أولاً، تصوّروا سوقاً موحّدة بموجب اتفاقية نافتا، تتمتع بالصلاحيات القانونية لحظر مساعدة الكونغرس الهادفة إلى منع معمل سيارات في ديترويت من الانتقال إلى المكسيك. فإن أصر الكونغرس، فقد ترسل سلطات المنافسة في النافتا الحكومة الأميركية إلى محكمة النافتا لتغريمها من قبل قضاة مكسيكيين، أميركيين وكنديين، وهذا ما يقوم به الاتحاد الأوروبي بالفعل.  

ثانياً، تخيّلوا مذكّرة اعتقال صادرة بموجب اتفاقية نافتا وقائمة على "الاعتراف المتبادل"، أي مبدأ أن أي حكم صادر عن محكمة مكسيكية يكون صالحاً كما لو كان صادراً من أوهايو، فلا يستطيع بالتالي مواطن نيويوركي متهم بارتكاب جريمة خطيرة (لنقل مثلاً جريمة اغتصاب في حالة سكر في كانكون) الاعتراض على عملية تسليمه إلى الحكومة المكسيكية بحجة أداء الشرطة المكسيكية الرديء، إنما يجب أن يُنقل على الفور إلى المكسيك للمحاكمة. بما أن مذكرة الاعتقال الأوروبية صادرة مسبقاً، يملك الأوروبيون الحق في القلق بشأن المحاكم التركية.   

استغرقنا الوصول إلى هناك سنوات طويلة

قد يخال الأميركيون الذين يقارنون اتّحادهم خلال قرنين من الزمن بالاندماج الأوروبي على مدى ستة عقود بأنهم يمدحون أوروبا، لكن غالباً ما يبدو ذلك كموقف متعال، صحيح أن تشكيل حكومة فدرالية وإصدار عملة مشتركة استغرق الولايات المتحدة بعض الوقت، وصحيح أن هذه الأخيرة خاضت حرباً أهلية، لكن الخلافات الأوروبية، سواءً لناحية اللغة، والدين، أو التاريخ، تعود إلى آلاف السنين، ولم تكن النزاعات في أوروبا حروباً أهلية.

بمقاييس عدّة، تبدو أوروبا أكثر تنوّعاً من الولايات المتحدة، فيشكّل متوسط نصيب الفرد في الثروة الوطنية في ميسيسيبي، أفقر ولاية، نحو ثلثي المعدل الوطني، بينما يصل في الدولة العضو الأفقر في الاتحاد الأوروبي، بلغاريا، إلى 38% من معدّل الاتحاد، وفضلاً عن ذلك، تعتبر ميسيسيسي الولاية الأكثر تديناً، إذ إن المواطنين هناك أكثر ميلاً بثلاث مرات إلى ارتياد الكنيسة في الأسبوع مقارنةً بفيرمونت (الدولة الأكثر علمانيةً). لكن ثلاثة أرباع المالطيين وثلثي البولنديين يرتادون الكنيسة مرةً في الأسبوع، بينما يقوم بالمثل 3% فقط من الدنماركيين. فضلاً عن ذلك، يعتبر سكّان الميسيسيبي أقل ميلاً من الكاليفورنيين إلى الاعتقاد بأن الاحتباس الحراري مشكلة "في غاية الخطورة"، وذلك بنسبة 56% مقارنةً بـ73%. أمّا في إستونيا، فيعتقد 42% فقط من السكّان بأن تغيّر المناخ مشكلة "في غاية الخطورة"، مقارنةً بـ84% من اليونانيين.

لا يزال بعض الأميركيين يتحلون بالجرأة، فيصيح هؤلاء: هيا أيها الأوروبيون الأقزام، شكّلوا ولايات متحدة أوروبية وانتخبوا لأنفسكم رئيساً. قد يرغبون في التفكير ملياً  في نوع المسألة الأوروبية المهمّة بما يكفي لتحظى بإجماع الأوروبيين في أنحاء القارة. وللأسف فإن معارضة تركيا هي من المسائل القليلة التي قد تفي بالغرض.