في خريف هذا العام لابد لإيران من اتخاذ قرارات على قدر عظيم من الأهمية، وذلك لأن عملية تخصيب اليورانيوم فيها مازالت مستمرة بلا هوادة، والواقع أن طهران اقتربت كثيراً من الخط الأحمر الخطير المتمثل في امتلاك القدرة على إنتاج الأسلحة النووية. 

Ad

إن إيران الآن على وشك إضاعة الفرصة التاريخية الأكبر التي سنحت للبلاد منذ قيام الثورة في عام 1979، بل ربما طيلة القرن الماضي. وهذه الفرصة تدعى «باراك أوباما». 

إن سياسة أوباما في التواصل مع إيران هي التي تقدم للبلاد هذه الفرصة الفريدة، إذا ما انتهزتها القيادة الإيرانية. ولكن حتى لحظتنا هذه فليس هناك من الدلائل ما يشير إلى أن هذا سيحدث، وذلك لأن عرض أوباما يمثل في نظر قادة إيران أيضاً خطراً داهماً. ذلك أن أخشى ما يخشونه هو الانفتاح على أميركا وتخفيف التوترات بين البلدين، والواقع أن النظام الإيراني كان مرحباً بالرئيس السابق جورج دبليو بوش والمحافظين الجدد في إدارته لأنهم سمحوا لقادة إيران بتنظيم الصفوف، وفي الوقت نفسه قدموا لهم الفرصة المجانية لمد نفوذهم إلى العراق وأفغانستان. 

وشأنهم كشأن كل أنصار التحديث الجزئي في الأنظمة الاستبدادية، فإن حكام إيران راغبون في تطوير الاقتصاد والتكنولوجيا والبنية الأساسية، ولكن ليس الحرية والديمقراطية وحكم القانون. وهذا يفسر خشيتهم العظيمة من «الثورات الملونة»، رغم أنهم يعملون جاهدين بتصرفاتهم الملتوية على إحداث ثورة ملونة في إيران. 

إن الدراما المتواصلة المتمثلة في المظاهرات الحاشدة وأعمال العنف والتعذيب والقمع التي أعقبت انتخابات يونيو المزورة كشفت عن الصراع الجوهري داخل صفوف النخبة السلطوية الإيرانية حول المسار الأساسي الذي يتعين على الجمهورية الإسلامية أن تتخذه. فهل يتعين عليها أن تسعى إلى زيادة الانفتاح أم العزلة؟ التكامل أم زعزعة الاستقرار؟ الحقيقة أن القرارات حتى الآن مازالت بعيدة كل البعد عن الحسم، على الرغم من تسيد الانعزاليين في الوقت الحالي. 

رغم أن ثورة آية الله الخميني في عام 1979 عَـرَّفَت نفسها باعتبارها ثورة إسلامية، فإنها في صميمها كانت ولاتزال ثورة وطنية، حيث إن أهم أهدافها يتلخص في تحقيق استقلال الأمة عن نفوذ القوى الأجنبية. وبعد مرور ثلاثين عاماً منذ قامت الثورة، فإن العرض الذي تقدم به أوباما من شأنه أن يمكن إيران ليس فقط من توطيد استقلالها من خلال المصالحة مع الولايات المتحدة، بل أيضاً من الارتقاء إلى مكانتها المتزايدة في المنطقة وفي عالم السياسة الدولية. إن حلم عودة إيران باعتبارها قوة وحضارة عظميين من الممكن أن يتحقق الآن في انسجام مع القوى الإقليمية والعالمية الكبرى، بدلاً من التحول إلى كابوس المواجهة. غير أن القيادة الإيرانية الحالية تراهن بوضوح على خيار الكابوس. 

إن الواضح في الأزمة الحالية هو أن الثورة الإيرانية ضد الشاه لم تكن الثورة الإسلامية الأولى، ولكنها كانت واحدة من آخر ثورات العالم الثالث المناهضة للاستعمار، أي أنها تشكل نهاية وليس بداية حقبة تاريخية. 

إن واحدة من أولى الثورات الناجحة من هذا النوع، وأكثرها أهمية بكل تأكيد، كانت ثورة الصين في عام 1949. ولقد أعقبتها ثورات تحرير وطنية عديدة ناجحة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وكانت أغلب هذه الثورات مناهضة للغرب بطبيعتها، ولأسباب وجيهة. 

ولقد اختارت أغلب هذه الثورات النموذج الاقتصادي السوفييتي، والذي جمع بين اقتصاد تسيطر عليه الدولة والحد الأدنى من الاندماج في السوق العالمية، ولهذا السبب تكبدت أغلب هذه البلدان ثمناً باهظاً فيما بعد. 

من الجدير بالقيادة الإيرانية أن تدرس هذه الحالات بعناية. والواقع أن الاتحاد السوفييتي ذاته انهار في النهاية بسبب اقتصاده المنقوص، وليس افتقاره إلى الصواريخ والرؤوس الحربية النووية. وما كان للوفرة التي تتمتع بها البلاد من النفط والغاز الطبيعي أن تمنع زوال ذلك النظام. 

ولكن من الواضح أن حكام إيران لا يريدون أن يتعلموا من الماضي، بل إنهم يعلقون آمالهم على الاستراتيجية القديمة القومية المناهضة للاستعمار، ولا يتورعون حتى عن اللجوء إلى الوسائل الستالينية مثل المحاكم الاستعراضية الصورية. ولكن حكم الشعوب بسن الحربة نادراً ما ينجح. 

لا شك أن كل أنصار التحديث الجزئي في الصين، وروسيا، وفيتنام، وغيرها من البلدان تشترك في الخوف من «الثورات الملونة» السلمية التي جلبت الديمقراطية إلى جورجيا، وأوكرانيا، ولبنان في الأعوام الأخيرة. ولكن لكي تتجنب هذا النوع من التحديث السياسي فقد لجأت كل هذه البلدان إلى التحرير الاقتصادي والاجتماعي والاندماج في السوق العالمية. 

مازال هناك عدد قليل من الدول «الاشتراكية» التي لم تشهد أي نوع من الإصلاح مثل كوريا الشمالية وكوبا، وأيضاً بعض البلدان الجديدة في هذا السياق مثل فنزويلا وبوليفيا. ولكن هذه البلدان غير قادرة على التطور مستقلة بذاتها وتفتقر إلى قوة عالمية بديلة. وكل ما ستتركه هذه البلدان لشعوبها هو المزيد من الفرص الضائعة، والآمال المحطمة، والفواتير غير المسددة، والواقع أن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بات أكثر انجذاباً إلى البقايا المثيرة للشفقة من الثورات المناهضة للاستعمار في أميركا اللاتينية، وليس إلى مجتمع الدول الإسلامية. 

بل إن العواقب التي قد تترتب على هذا الموقف تبدو أكثر كآبة إذا ما قارن الإيرانيين أنفسهم بدول مثل الهند والبرازيل وتركيا. إن النجاح الباهر الذي حققته هذه البلدان يشكل استعراضاً للشروط الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية اللازم توفرها للتحول إلى قوة إقليمية أو حتى عالمية في القرن الحادي والعشرين. 

في الأمد المتوسط لن يكون المنافس الرئيسي لإيران إسرائيل أو جيرانها العرب، بل تركيا. ففي حين تحرص إيران على قمع الحرية الداخلية، وتعتمد على سياسة خارجية قائمة على زعزعة الاستقرار الإقليمي، وتركز على إنتاج الأسلحة النووية، التي من شأنها أن تهدد أمنها بدلاً من دعمه، سنجد أن تركيا خاضعة لعملية تحديث شاملة وناجحة. ونتيجة لهذا فقد أصبحت تركيا، وليس إيران، على المسار السليم نحو التحول إلى القوة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط. 

في خريف هذا العام لابد من اتخاذ قرارات على قدر عظيم من الأهمية، وذلك لأن عملية تخصيب اليورانيوم في إيران مازالت مستمرة بلا هوادة، والواقع أن إيران قد اقتربت كثيراً من الخط الأحمر الخطير المتمثل في امتلاك القدرة على إنتاج الأسلحة النووية. لذا فمن الأهمية بمكان أن يقرر قادتها إما أن يتقبلوا اليد التي يمدها إليهم أوباما وإما أن يقودوا المنطقة بالكامل إلى مرحلة جديدة من المواجهة، ولا شك أن مراجعة كتب التاريخ من شأنها أن تساعدهم في اتخاذ القرار. 

* يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق. 

«بروجيكت سنديكيت/معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»