هل يحتاج الأداء الإعلامي العربي ضبطاً ومراجعة وتنظيماً؟ نعم بكل تأكيد.
هل يمكن أن يتم هذا الضبط والتنظيم من خلال وزراء الإعلام، أو «وثيقة تنظيم البث الفضائي»، أو «مفوضية الإعلام العربي»؟ لا بكل تأكيد.بالفعل شهد الفضاء العربي، والإنترنت كذلك، تجاوزات شديدة الخطورة في الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي خلق حاجة ماسة إلى مراجعة هذا الأداء، الذي مال في أحيان عديدة إلى الانفلات، لكن وزراء الإعلام العرب ليسوا جديرين بتلك المراجعة، كما أن «وثيقة تنظيم البث الفضائي»، التي أجيزت في فبراير من عام 2008، و«مفوضية الإعلام العربي»، التي يبت في إنشائها الآن، لن تكونا ناجعتين في الوفاء بالضبط والتنظيم المأمولين.في الشهر الماضي، نشبت أزمة عميقة في الكويت على خلفية توجيه مرشح نيابي سابق «إهانات» في حق فئة مهمة من فئات الشعب الكويتي، عبر فضائية «السور»، وهي الأزمة التي تحولت في بعض تجلياتها إلى فتنة كان يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة شديدة التأثير في الوحدة الوطنية للبلاد.وفي شهر نوفمبر المنصرم، وقعت معركة عنيفة بين مصر والجزائر، الدولتين والشعبين، على خلفية منافسة كروية محتدمة، أخذتها السياسة المأزومة والإعلام غير المهني إلى آفاق صراع غير مسبوق بين الجانبين، بحيث تأكد للجميع أن الحرب بين البلدين، اللذين كافحا سوياً في مفاصل مهمة من تاريخهما الوطني، كانت لا شك ستندلع إذا كانا متجاورين حدودياً.ومنذ سقط نظام صدام حسين في العراق، وهذا البلد يعرف انفلاتاً إعلامياً قياسياً؛ إذ تتعدد القنوات الفضائية والصحف ومواقع الإنترنت، التي أنشئت وتمول، للأسف الشديد، عبر مصالح مذهبية وطائفية وعرقية وإيديولوجية، والتي تتصارع فيما بينها مستخدمة كل أنماط الانحياز والعوار المهني، مستهدفة تحقيق أغراض مذهبية ضيقة، وواضعة مستقبل العراق ولحمته الوطنية وتكامله الإقليمي في فوهة بركان. أما «الإنترنت»، فإنها تعطي أسوأ الانطباعات عن نفسها في مجال التعبير العام في العالم العربي، فرغم أن «الإنترنت» كانت باباً واسعاً على الحرية والمشاركة وتعزيز الشفافية والمراقبة والمتابعة في دولنا المأزومة حقوقياً وعدلياً وسياسياً، فإنها للأسف حفلت بالكثير من الانفلات والسوء والمحتوى الصدامي وغير الرشيد.فقدر غير قليل من المحتوى العربي على الشبكة العنكبوتية يتمحور حول الإباحية والبذاءة وقلة الحياء، وللأسف فإن هذا القدر بالذات يحصد أفضل معدلات المتابعة والتفاعل. كما أن الخلافات السياسية والمذهبية والعرقية والدينية تجد أوسع مجالات الانفلات والتصادم عبر المواقع الإلكترونية غير معلومة الهوية، بل من خلال الأقسام التفاعلية في المواقع المعلومة الهوية والتابعة لوسائل الإعلام النظامية.يمكن للمرء أن يسوق آلاف الذرائع والحجج التي تستوجب وقفة تنظيمية ورقابية حيال الانفلات الإعلامي الحاصل في الفضاء والإنترنت في العالم العربي الآن، لكن أياً من تلك الحجج والذرائع لا يبرر أبداً أن يتولى وزراء الإعلام العرب قيادة عملية التنظيم والمتابعة المرجوة.فوزراء الإعلام العرب يمتلكون السلطات الإدارية التي تخول لهم إعطاء تراخيص البث ومنعها، كما أنهم يستطيعون تطبيق القوانين العامة التي تحظر الإباحية عبر البث العلني والإنترنت، والتي تعاقب على القذف والسب عبر قانون الجزاء العام في كل بلد. بل إنهم مسؤولون عن إدارة المنظمات الإعلامية الحكومية، وهي منظمات تمارس جزءاً كبيراً من الانفلات وتجاهل القوانين ومواثيق الشرف ومعايير الأداء المهنية. كما أن بعض هؤلاء الوزراء يتحكم بإدارة الأقمار الاصطناعية في الفضاء العربي، ويمكنه ببساطة شديدة إيقاف بث أي قناة عبرها، وقد سبق أن مورست هذه الصلاحيات من قبل بحق فضائيات انتهجت توجهات سياسية ودينية اُعتبرت غير مقبولة من قبل حكومات عربية. ولذلك فقد خرجت «وثيقة البث الفضائي العربي» التي أجيزت قبل عامين كائناً ممسوخاً مشوهاً؛ إذ جمعت بين عبارات فضفاضة لا يمكن تعيينها عن حرية تدفق المعلومات والتعبير، وقننت السبل الإجرائية للترخيص والبث، وأضافت إلى هذا شيئاً مما يندرج ضمن مواثيق الشرف المهنية، والتي يجب أن ينجزها أعضاء الجماعة المهنية بأنفسهم، وختمت بتعليمات للقائمين على أمر الفضائيات العربية، وكأنها تلعب دور رئيس تحرير البرامج الذي يختار القصص والموضوعات ويحدد زوايا المعالجة.«مفوضية الإعلام العربي» أيضاً لن تخرج عن هذا الإطار، فهي بالضرورة مشروع يعكس رغبة الحكومات العربية في إبقاء سيف الرقابة مصلتاً على رقبة الإعلاميين والإعلام، وهي محاولة مفضوحة لـ«تسليم القط مفتاح الكرار».لا تصدقوا وزراء الإعلام، فالحكومات العربية تملك بالفعل قوانين وصلاحيات كافية لمراقبة الأداء الإعلامي العربي وضبط انفلاتاته عبر القوانين العامة والرصد المتكامل. أما ما يحتاجه الإعلام العربي فعلاً من متابعة وتنظيم ومراجعة وتقييم وضبط أداء، فلا يتحقق سوى عبر الجماعات المهنية العربية، التي يجب أن تصدر مواثيق الشرف وتحترمها وتحاسب أعضاءها على التزامها وتمثلها، والمجتمع المدني الذي يعبر عن إرادات شعبية مستقلة في الحصول على أداء إعلامي نظيف وآمن وراقٍ وحر في آن، ومؤسسات الدقة العامة التي تضم مستقلين نابهين من ذوي السمعة الطيبة من القانونيين والإعلاميين والأكاديميين وبعض فئات الجمهور من أصحاب المصلحة، والتي ترفع إليها مطالب المتضررين من أداء وسيلة إعلام ما، فتتم مراجعة الشكوى، وتعيين الخطأ إن وجد، وفرض العقوبة المعنوية الموجعة والغرامة المالية الرادعة.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
لا تصدقوا وزراء الإعلام
31-01-2010