إذا انخرطت مؤسسة أو باحث في التصدي لأهم شعراء القرن العشرين، فإنه ليبدو صعباً تجاوز حضور وأثر الشاعر البرتغالي (Fernando Pessoa) فرناندو بيسوا (1888-1935). فبيسوا ليس بالشاعر العادي على إطلاق الكلمة، لا في حياته ولا في شعره. بل ربما هو واحد من أكثر شعراء القرن العشرين غرابة في ممارسته الحياتية والشعرية. وخير دليل على ذلك ترجمة المهدي أخريف لكتاب (اللاطمأنينة) الصادر عن وزارة الثقافة والاتصال المغربية، والذي يعدّ بحق مرجعاً كبيراً ومهماً لشعر بيسوا باللغة العربية، إن لم يكن المرجع الأهم.

Ad

إن الوقوف على أشعار بيسوا صعب، وصعب جداً. فالرجل متأمل كبير، وباحث في جوهر وجود الإنسان وماهية ذلك الوجود، وهو قبل هذا وذاك مسكون بسؤال وهاجس وجودي عن الجدوى والغاية من وجود الإنسان ومآله. وهو إلى جانب ذلك شاعر مرهف الحس، يثير الدهشة والعجب في قدرته على اصطياد الصورة الشعرية النادرة في العادي، ويثير مقداراً أكبر من الدهشة في تطويعه للغته، في بث مراده!

ولد بيسوا في لشبونة، لكن طفولته تلونت بعوالم جنوب إفريقيا بعد موت والده، وانتقاله ووالدته للعيش هناك في كنف زوج آخر. درس التجارة وعاد إلى البرتغال في سن السابعة عشرة، تنقل بين أكثر من وظيفة، ليستقر في «تحرير الرسائل للتجار ورجال الأعمال».

من يتفحص آثار بيسوا يقع على شاعر متفرد وزاهد يرى في الشعر الحياة، ويرى الحياة في الشعر:

«ما تسلُبني إياه الحياة وما تهبُني لا يعنيني ولا يبكيني. بالمقابل لطالما أبكتني بضع صفحات من النثر» ص39

إن التصريح بأن للنثر/الفن القدرة على هزّ عواطف الإنسان أكثر مما لمظاهر الحياة المادية، ليؤكد إيمان بيسوا بقدرة الشعر على التأثير في حياة البشر، أكثر من قدرة الواقعي واليومي في تشكيل هذه الحياة. وربما لهذا كتب بيسوا ونشر أعماله، تحت أكثر من اسم، وتقنع بأكثر من قناع في قصائده. لأنه لم يكن باحث شهرة أو مجد عابر، ولا طالب مال، بل كان مؤمناً برسالة الشاعر، ومؤمناً بقدرة الشعر على المضِّ في وعي وحياة الإنسان.

توفي فرناندو قبل خمسة وسبعين عاماً، إلا أن شعره يحمل معاناة وأسئلة اللحظة الراهنة، وربما كان مرد ذلك إلى تأمله الدائم، وقدرته الفذة على النفاذ إلى ما خلف المشهد القائم: «الاصطناعي هو الطريقة المبتكرة للاستمتاع بالطبيعي. ما استمتعت به في هذه الحقول الشاسعة، إنما استمتعت به لأنني لا أعيش هنا. من لم يضطهد قط لا يشعر بالحرية.

الحضارة هي تهذيب للطبيعة، المصطنع هو طريق لأجل الدنو مما هو طبيعي.

لكن ما هو صحيح، مع ذلك، هو أننا لا نمتلك الاصطناعي البتة وفقاً للطبيعي». ص108

عاش بيسوا حياته شاعراً متأملاً وفاحصاً في لحظته الماثلة أمامه، لكنه عاش أيضاً على وقع توقعه للحظة القادمة، مؤمناً بضرورة تجديد قدرتنا على تلقي الجديد بوصفه الأجمل في الحياة: «باستقبالك ليوم جديد، عليك بدفن كل ما يتعلق باليوم الذي سبقه، كن جديداً في كل صباح جديد، في عملية تجديد مستديمة لبكارة الإحساس؛ وهذا وحده فقط، ما يستحق أن يمتلك بالنسبة إلى كينونتنا الناقصة». ص104

مثلما هو صعب شعر بيسوا، فإنه صعب أكثر تناوله في كلمات قليلة. فقراءة أعمال فرناندو بيسوا تعني قراءة في كتاب الحياة المفتوح.