ازمات عديدة في مجال الرعاية الصحية

نشر في 25-12-2009
آخر تحديث 25-12-2009 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت أنفقت إدارة الرئيس باراك أوباما القسم الأعظم من عام 2009 في التعامل مع مشاغل داخلية مرتبطة بالصراع السياسي الدائر حول مسألة توسيع نطاق التأمين الصحي ليشمل عشرات الملايين من الأميركيين الذين لا يتمتعون بأي رعاية صحية، والواقع أن شعوب البلدان الصناعية الأخرى تجد صعوبة كبيرة في فهم هذا الأمر، وذلك لأن هؤلاء الناس لديهم الحق في الحصول على الرعاية الصحية، وحتى الحكومات المحافظة لا تحاول حرمانهم من هذا الحق.

إن الصعوبات التي يجدها بعض الأميركيين فيما يتصل بمسألة إصلاح الرعاية الصحية تنبئنا عن العداء الأميركي للحكومة بأكثر مما تنبئنا عن الرعاية الصحية عموماً، ولكن المناقشة الدائرة في الولايات المتحدة تسلط الضوء على قضية أساسية من شأنها أن تزعج كل البلدان المتقدمة تقريباً في عام 2010 وما بعده: الكفاح من أجل التحكم بتكاليف الرعاية الصحية.

إن الرعاية الصحية تقتطع دولاراً واحداً من كل ستة دولارات تنفقها الولايات المتحدة- الرعاية الخاصة والعامة- وعلى هذا المسار ستتضاعف تكاليف الرعاية الصحية بحلول عام 2035، وهذه حصة أعظم من أي حصة مخصصة للرعاية الصحية في أي مكان آخر من العالم، ولكن ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية يمثل مشكلة أيضاً في البلدان التي تنفق عليها أقل من ذلك كثيراً.

هناك العديد من البنود التي يمكن توفير قدر من النفقات فيها، فتشجيع الناس على ممارسة التمارين الرياضية، وتجنب التدخين، وتناول المشروبات الكحولية باعتدال، وتناول كميات أقل من اللحوم الحمراء، كل ذلك من شأنه أن يساعد في تقليص تكاليف الرعاية الصحية، ولكن نظراً لشيخوخة سكان البلدان المتقدمة، فإن تكاليف رعاية المسنين من المحتم أن ترتفع، ولذا، سيكون لزاماً علينا أن نعمل على إيجاد سبل أخرى لتوفير المال.

وقد يكون من المنطقي أن نبدأ من النهاية هنا، وإن علاج المرضى المحتضرين الذين لا يرغبون في الاستمرار في الحياة يشكل إهداراً للمال والجهد، ومع ذلك فإن القليل من البلدان تسمح لأطبائها بمساعدة المرضى الذين يطلبون منهم إعانتهم على الموت، وفي الولايات المتحدة يذهب ما يقرب من 27% من ميزانية الرعاية الصحية لرعاية أشخاص يعيشون العام الأخير من حياتهم، وفي حين أن بعض هذه المبالغ تنفق على أمل منح المريض الفرصة للحياة لسنوات عدة أخرى، فليس من غير المعتاد أن تقدم المستشفيات علاجات تتكلف عشرات الآلاف من الدولارات لمرضى لا أمل لهم في الحياة لأكثر من أسبوع أو أسبوعين، وكثيراً ما يكون هؤلاء المرضى خاضعين للتخدير أو قد يبقون على وعيهم بصعوبة بالغة.

أحد العوامل التي تدفع الأطباء إلى اتخاذ مثل هذه القرارات يتلخص في خوفهم أو خوف مستشفياتهم من تعرضهم لدعاوى قضائية يتهمهم فيها أهل المريض بترك مريضهم يموت، لذا فإن المرضى المشرفين على الوفاة، على سبيل المثال، يظلون موصولين بأجهزة دعم الحياة، خلافاً للرأي الطبي السليم من جانب الطبيب، وذلك لأن هؤلاء المرضى لم يذكروا بالتحديد عدم رغبتهم في وصلهم بأجهزة دعم الحياة في مثل هذه الظروف.

والنظام الذي يتقاضى به الأطباء والمستشفيات الأتعاب يشكل عاملاً آخر في تقديم العلاجات الباهظة التكاليف التي لا تفيد المريض كثيراً، فحين قررت «إنترماونتن» للرعاية الصحية، وهي شبكة من المستشفيات في يوتاه وأيداهو، تحسين العلاج الذي تقدمه للأطفال المبتسرين، أدى ذلك إلى تقليص الوقت الذي يمضيه هؤلاء الأطفال في وحدات الرعاية المركزة، وبالتالي خفض تكاليف علاجهم إلى النصف تقريباً، ولكن لأن المستشفيات تحصل على رسوم في مقابل كل خدمة تقدمها، ولأن الرعاية الأفضل تعني أن الأطفال سيحتاجون إلى خدمات أقل، فقد كلف ذلك التغيير شبكة المستشفيات حوالي 329 ألف دولار سنوياً.

وحتى لو أزلنا هذه الحوافز الضارة، فسيكون لزاماً علينا أن نواجه أسئلة أكثر صرامة بشأن التحكم بالتكاليف. أولاها بشأن تكاليف العقاقير الجديدة، فإن بلوغ تكاليف تطوير العقاقير 800 مليون دولار ليس بالأمر غير المعتاد، ويمكننا أن نتوقع رؤية المزيد من الأنواع الجديدة من العقاقير- المستحضرات الصيدلانية البيولوجية المصنوعة من خلايا حية- والتي قد تتجاوز تكاليف تطويرها ذلك المبلغ.

إن تكاليف التنمية والتطوير لابد أن تمرر إلى أسعار العقاقير، والتي قد تكون مرتفعة إلى حد غير عادي حين لا يستفيد من عقار ما سوى عدد ضئيل نسبياً من المرضى. داء «غوشر»، على سبيل المثال، عبارة عن حالة وراثية نادرة تؤدي إلى الشلل، وفي أشكاله الأكثر حدة يقتل ضحيته عادة في سن الطفولة، والآن بات بوسع المصابين بهذا المرض أن يعيشوا حياة شبه طبيعية، وذلك بفضل عقار يسمى «سيريزيم»، ولكنه يتكلف 175 ألف دولار سنوياً.

وتفرض الأجهزة الطبية الجديدة نفس القدر من المعضلات الصعبة، فأجهزة القلب الاصطناعي، على سبيل المثال، كانت تستخدم لإبقاء المريض على قيد الحياة حتى يتمكن من إجراء عملية زراعة القلب، ولكن هناك عجز في عدد القلوب الصالحة للزراعة، والآن أصبحت هذه الأجهزة تزرع باعتبارها علاجاً طويل الأجل لفشل القلب، تماماً كما تحل آلة غسيل الكلى محل الكلية الطبيعية.

وطبقاً لمانوي جاين من جامعة أيموري، ففي كل عام يمكن إبقاء 200 ألف مريض في الولايات المتحدة على قيد الحياة لمدة أطول قليلاً بالاستعانة بأجهزة القلب الاصطناعي، بتكلفة تبلع 200 ألف دولار للمريض الواحد، أو أربعين مليار دولار. تُرى هل نستطيع أن نعتبر هذا استخداماً معقولاً للموارد في دولة تؤكد الإحصاءات الرسمية فيها أن 39 مليوناً من سكانها يعيشون تحت خط الفقر، وهو 22 ألف دولار للأسرة المكونة من أربعة أفراد؟

في البلدان التي تقدم الرعاية الصحية المجانية لمواطنيها، يصبح من الصعب للغاية على المسؤولين الرسميين أن يقولوا لأي شخص إن الحكومة لن تتحمل تكاليف العقار الوحيد أو الجهاز الوحيد الذي قد ينقذ حياته، أو حياة طفله، ولكن هذه النقطة قد تطرح في النهاية حين يصبح التصريح بمثل هذه المسائل أمراً واجباً.

لا أحد يحب أن يحدد قيمة الحياة البشرية بالمال، ولكن الحقيقة هي أننا نقوم بذلك ضمناً بالفعل، حين نفشل في تقديم الدعم الكافي لمنظمات تعمل في البلدان النامية. كانت شبكة GiveWell.net، التي تتولى تقييم المنظمات العاملة في مجال إنقاذ حياة البشر في بلدان العالم الفقيرة، قد حددت تلك التكاليف في كثير من هذه المنظمات المعنية بإنقاذ حياة إنسان، بنحو لا يتجاوز الألف دولار للفرد.

وطبقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية فإن برامج التحصين التي تنفذها في البلدان النامية تكلف حوالي 300 دولار عن كل حياة تنقذها، وهذه البرامج لا تنقذ حياة هؤلاء الناس لسنة أو ما إلى ذلك، بل مدى الحياة. وعلى نحو مماثل، ينبئنا تقرير أولويات مكافحة الأمراض الصادر عن البنك الدولي بأن برنامج علاج مرض السل في بلدان العالم النامي، تحت رعاية شراكة «امنعوا مرض السل»، يمنح كل شخص يعالجه عاماً إضافياً من الحياة بتكلفة تتراوح ما بين خمسة إلى خمسين دولاراً.

وإزاء هذه الخلفية، فإن إنفاق مئتي ألف دولار لمنح أحد المرضى في بلد ثري فترة وجيزة نسبياً من الحياة لا يشكل تصرفاً مشكوكاً في صحته مالياً فحسب، بل إنه تصرف غير أخلاقي أيضاً.

* بيتر سنغر | Peter Singer

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».

back to top