في كل مرة أتلقى فيها خبر موت إنسان أشعر وكأن الهواء ينشفط من حولي، وكأن الزفير يحتبس في صدري، وفي كل مرة أذهب فيها معزيا لأحد، لا أستطيع إلا أن أجلس صامتاً مطرقاً منكفئاً على أفكاري، متذكراً حالي ومعدداً خطاياي، غير آمن على نفسي أن يكون اسمي هو القادم على لائحة الموتى، ليقيني بأن ليس أحد منا في مأمن من سهم المنايا.

Ad

بالرغم من كل حرارة وصدمة خبر الموت، إلا أن ما يثير الاستغراب دوما هو تلك السرعة التي يتجاوزه بها الناس، ولا أعني هنا أن الناس لا يظلون أسرى لذكرى ميت اختاره الله فليس هذا من ديننا بشيء، وإنما المقصود هو أن الناس سرعان ما تتجاوز الاعتبار من هذا الحدث الجليل المهيب بدلالاته والثقيل على النفس بوطأته.

منذ مدة كنت في المقبرة لحضور جنازة أحد الأحبة، وبينما كنا وقوفا في المصلى بانتظار مقدم الجنازة للصلاة عليها، وجدت الناس وقد انشغل أغلبهم في شتى الأحاديث الجانبية، وكأنهم في سوق أو ديوانية!

يومها كان يقف بجانبي النائب الفاضل د. جمعان الحربش بهدوئه ووقاره المعروفين، وإذا بأحد الأشخاص وبعد أن سلم عليه، يشرع في فتح حديث معه عن موضوع ما، فما كان من الحربش إلا أن قال له وهو يومئ برأسه «بعدين، بعدين»، ليفهمها الرجل ويسكت.

كثير من الناس اليوم فقدوا الإحساس بمهابة الموت وعبره ومعانيه، وصار الواحد منهم لا يتورع عن الانخراط في الحديث الباسم، بل الضاحك أحيانا، حتى وهو في مجلس العزاء، فضلا عن عدم التورع عن الحديث بالهاتف النقال، دون قطرة من وجل أو خجل، ودون أدنى مراعاة لمشاعر أهل الميت الذي يفترض أنه قد جاء لتعزيتهم!

للموت مهابة يا سادة، وفي كل مرة أتلقى فيها خبر موت إنسان، قريب أو بعيد، أشعر وكأن الهواء ينشفط من حولي، وكأن الزفير يحتبس في صدري، كمن تلقى لكمة بقبضة من حديد في أعلى معدته. وفي كل مرة أذهب فيها معزيا لأحد، لا أستطيع إلا أن أجلس صامتا مطرقا منكفئا على أفكاري، متذكرا حالي ومعددا خطاياي، غير آمن على نفسي أن يكون اسمي هو القادم على لائحة الموتى، ليقيني بأن ليس أحد منا في مأمن من سهم المنايا، وها نحن نشهد كل يوم رحيل شخص من معارفنا أو أقربائنا أو أصدقائنا أو أحبتنا بلمح من بصر، ولا اعتبار هنا لصغير أو كبير، أو لصحيح أو عليل، أو لغني أو فقير، فالموت يختال بيننا يقبض الأرواح بلا هوادة، تسوقه حكمة تفوق إدراكنا نحن الضعفاء.

إنه الموت يا سادة، وليس منا من هو في مأمن، فاعتبروا يا أولي الألباب!