هل من أسرار في قراءة النص الشعري

نشر في 03-06-2010
آخر تحديث 03-06-2010 | 00:00
 فوزي كريم شأن كل قارئ، تجمعني مع بعض الشعراء العالميين صلةٌ من إعجاب أحسها ولا أحسن فهمها، ومعرفتها بصورة كاملة وواضحة. صلةٌ تتضح لي خيوطها مع الأيام والسنوات، عبر القراءة لهم والقراءة عنهم. ومن هذه الخيوط ما أجده، وما من عجب، يتعارض مع الذائقة الشائعة لدى شعرائنا وقرائنا المُحدثين، التي تعتمد الإدهاشَ والصدمة من أجل توفير حدٍّ أدنى من الإعجاب بهذه القصيدة وهذا الشاعر.

وأنا أعتقدُ أن الإدهاشَ والصدمةَ لا يتولدان إلا عن طريق الصورة المجازية الصادمة، أو الموقف المشاكس الصادم، وهما أليَق بمهمات لاعب سيرك، فالعمل الشعري، لكي يحقق عمقاً، يحتاج الى المادة الخفية وراء اللغة، الكامنة في خبرة الشاعر الداخلية بالغة الندرة، أشعر أن اللغة خادعة، وأن اللعب فيها وعليها يزيد قابليتها على الخداع، فتبقي القارئ محاصراً بالحيز المتروك له أمام الورقة، وبالمساحة الملساء فوق سطح الحروف. هذا العامل هو الذي جعلني لا أكتشف طياتٍ مغرية في عدد من قصائد مالارميه مثلاً، رغم أنه يشكل منطلقاً حاسماً للقصيدة الحديثة. 
الشعر الفرنسي بصورة ما يستلهم لعب مالارميه في اللغة ومعها، ولم يجد استجابة من الشعر الإنكليزي الحصين إلا في العقود المتأخرة، والغريب أنه لم يجد طريقه الى الشعر الإنكليزي بصورة مباشرة بل دخله بوساطة الشعر الأميركي، الذي انفرد باستجابته للثقافة الفرنسية، فلسفة ونقداً وشعراً، منذ أمد طويل.

خيوطُ الإعجاب التي تجمعني مع الشاعر إذن، تذهب الى مدىً آخر قادرٍ على تحديد خطوط عامة لرؤيا داخلية من موضوعات كبرى تُشعل الكائن الإنساني، مهما تسامت ثقافتُه أو تدنّت، كموضوع الإنسان، والطبيعة، والله، والموت، والحب، والرغبة، والزمان، والآخر... هذه الموضوعات الكبرى لدى الشاعر الحقيقي ترشح من الزمان والمكان المحليين، من الخبرة الشخصية، والتماس المباشر مع الحياة، وأشيائها اليومية، ودون هذا تتجرّد القصيدةُ، وتغادر مملكة الشعر إلى التأمّل النظري.

الموضوعات الكبرى التي أشرت الى بعضها هي موضوعات تساؤل، تغنيها الإجاباتُ العديدة المختلفة والمتعارضة، أو الصمت، وما من إجابة محددة مطلقة، ولعل أروع مثال يحضرني دائما يتمثل في ملحمة «جلجامش» السومرية، فالموضوعات الكبرى فيها ليست دوائر مكتملة كأفكار العقيدة، الأفكار لدى شاعر العقيدة تتحول الى «أغراض» شعرية جاهزة، مستقلة عن كيانه الجسدي والروحي المتحرك أبداً، معلقة أمامه بقداسة، وما عليه إلا أن يتوقف ويقتطف منها وقت الحاجة أو الضرورة، إنها أفكار ثابتة بالجملة، وقابلة للتغيير بالجملة أيضاً، الموضوعات الكبرى لا يمكن أن تصبح «أغراضاً» شعرية، بالمعنى الذي فهمنا فيه «أغراض» الشعر العربي القديم والحديث.
مفهوم «الثورة» لدى شاعر مثل البياتي يكاد يكون «غرضاً» شعرياً، تماماً كمفهوم «الحب» لدى نزار قباني، أو مفهوم «المقاومة» لدى محمود درويش، أو مفهوم «الرفض» لدى أدونيس، أو مفهوم «النضال» لدى سعدي يوسف. وهذه جميعاً دوائر مغلقة بقناعة المؤمن، ولا تشكل حتى مادة أولية لموضوعات كبرى. بالإمكان إخلاؤها من الدائرة العقائدية المغلقة، وإطلاق سراحها، وإدخالها في أفق التساؤل المتشكك الحائر، هذا الأفق سيواجه كل معنى للثورة، وكل معنى للحب، وللمقاومة، وللرفض، وللنضال بالاستجواب الباحث المتشكك. إن تحقيق القناعة والانتصار بها ليس هدفاً من أهدافه، هدفه الوحيد هو الحقيقة، التي قد لا يقع عليها يوماً.

هذا الفارق الجوهري بين الأغراض والموضوعات الكبرى سيكون دليلاً نقدياً أوليا للإقبال على قراءة النص الشعري، وعلى تنمية الذائقة، وكان كذلك بالنسبة لي، في إعادة قراءة المعري، وأبي نواس، والسياب، وصلاح عبدالصبور، والبريكان، وعدد من شعرائنا المعاصرين، واكتشافهم من جديد.

الأمر ذاته يصح على قراءتي للشعر العالمي، وعلى اكتشاف خيوط الاعجاب التي تجمعني ببعضهم مع الأيام والسنوات. 

back to top