في وقت آخر... أب يتذكر!

نشر في 14-05-2010
آخر تحديث 14-05-2010 | 00:01
 حمد نايف العنزي يعجب المرء، حين تنهار الحياة من حوله وتتركه وحيداً، من الأشياء التي تدور في ذاكرته صباح مساء، فلا هي بالخطط العظيمة التي رسمها يوماً لمستقبله، ولا هي بالآمال الكبيرة التي كدح عمره من أجلها، هي في الغالب أشياء هينة لم يكن يلقي لها بالاً لها وقت حدوثها... نظرة رجاء من عينين صغيرتين لم يكترث لرجائهما، عبارة سمعها وهو لاهٍ عنها، صوت ترِّف فيه بارقة من الأمل لم يكن يحفل بالإصغاء إليه.

نعم... هذا ما فطن إليه "جون كارموني" وهو واقف ينظر من نافذة غرفة الجلوس إلى الطريق تحته، وهو يعج بحياة مرحة، لقد ظل يحاول تذكر المطالب العظيمة المهمة، لكنه عجز عن أن يتمثلها واضحة في ذهنه، وكل ما يتذكره الآن هو ما قالته له ابنته الصغيرة ذات مساء، منذ ثلاثة أسابيع تقريباً، ففي ذلك المساء، حمل "جون" معه من المكتب إلى البيت مسودة النص النهائي للتقرير السنوي المقدم لجمعية أصحاب الأسهم، وهو على إدراك لما لهذا التقرير من أثر كبير في مستقبله ومستقبل أسرته الصغيرة، إذ ينبغي له أن يستوثق من صحة ودقة هذا التقرير، فمصيره قد يكون معلقاً به.

لم يكد "كارموني" يقلب صفحة من التقرير حتى جاءته "مارغريت" الصغيرة وهي فرحة وقالت له: "أبي... انظر"، فرفع رأسه ونظر ثم قال: "آه... كتاب جديد؟.. إنه جميل جدا"... "نعم يا أبي... هل لك أن تقرأ لي قصة منه؟"... "لا يا عزيزتي... في وقت آخر" كل ما فعلته مارغريت بعد ذلك أن ظلت واقفة بجانبه وهو يقرأ فقرة من تقريره، وإذا بها تقول له بصوت رقيق كله أمل: "لكن ماما قالت إنك ستفعل يا أبي"... "آسف... قولي لماما تقرأها لك، فأنا مشغول الآن"... "لكن ماما الآن منهمكة في عملها، فهلا قرأت لي أنت هذه القصة القصيرة وحسب، انظر... أليست صورة جميلة يا أبي؟"... "نعم نعم، إنها كذلك، لكن لدي عمل ينبغي أن أنهيه هذه الليلة، فلنؤجل القراءة إلى وقت آخر"!

ظلت مارغريت واقفة والكتاب مفتوح على الصورة، ومر وقت طويل قبل أن تقول شيئاً آخر، أما هو فقد قرأ في هذه الأثناء صفحتين من التقرير عن البرنامج الذي وضعه قسم الإعلانات لترويج منتجات الشركة، فعادت مارغريت لتقول: "لكنها صورة جميلة يا أبي، يبدو أن القصة رائعة جداً"... "أعلم ذلك، سأقرأها لك في وقت آخر، اما الآن، فانصرفي عني"...  "لكن، هل ستقرأها لي حقا في وقت آخر"... "طبعا سأفعل، كوني واثقة من ذلك"... وضعت مارغريت الكتاب عند قدميه وقالت: "ها هي... اقرأها متى ما فرغت لها، لكن إن فعلت، ارفع صوتك كي أسمعها أنا أيضا"... "حسناً حسناً، فليكن، لكن في وقت آخر"!

هذا ما يتذكره الآن جون كارموني... كيف أن طفلة صغيرة مؤدبة لمست يده وقالت باستحياء: "لكن إن فعلت، ارفع صوتك كي أسمعها أنا أيضاً" ومن أجل هذا يضع الآن يده على الكتاب ويتناوله من على المائدة، حيث كوموا عليها كل لعب مارغريت، وقد التقطوها واحدة تلو الأخرى من على الأرض حيث تركتها، وفتح الكتاب عند الصورة الجميلة، فلما أخذ يقرأ تلك القصة، كان الأسى يكاد يقبض شفتيه قبل أن تنطقا، لم يحاول أن يستمر في الذكرى، ولقد مرت عليه برهة نسي فيها ما يملأ قلبه من حقد بغيض مرير على هذا السائق الثمل الذي قطع الشارع بسيارة قديمة تتمايل ذات اليمين وذات الشمال، وهو يثوي في السجن الآن بتهمة قتل إنسان خطأ.

بل حتى أنه لم يلاحظ زوجته، وهي شاحبة صامتة مرتدية ثياب الحداد متأهبة لتشيع جنازة مارغريت، وهي تحاول بهدوء أن تقول: "لقد تهيأت يا عزيزي... ويجب أن نخرج الآن"... ذلك أن كارموني كان يقرأ: "ذات مرة كانت هناك فتاة تعيش في كوخ حطاب بالغابة السوداء، وبلغ من جمالها أن الطيور كانت تنسى غناءها من فوق الغصون وتتطلع إليها، ثم جاء يوم حدث فيه... " كان كارموني يقرأ لنفسه، وقد رفع صوته حتى تسمعها هي أيضاً... ولعلها تسمع الآن!

أعطوا أطفالكم ما يستحقون من وقت وحب واهتمام ورعاية، فهم أولى من كل شيء آخر مهما بدا مهماً للغاية... صباحكم فل وورد وياسمين!

***

من الإنترنت... بتصرف كبير.

back to top