الكتابة من أهم وسائل التعبير... لذا نجد أن أغلبية الناس تمارس الكتابة سرا وعلانية، وربما الذين لا يحترفونها أكثر بكثير من الذين يحترفونها، وقد يكون هناك كتاب هم أفضل بكثير ممن هم موجودون بالفعل على ساحة الكتابة.

Ad

وأنا تصلني رسائل من قراء يحترفون الكتابة فقط في حياتهم السرية، وأشهد بأنها كتابة متفوقة عن كثير مما اقرأه في الصحف والمجلات... وهناك قارئ لفتت نظري كتاباته التي يقمعها في أدراجه المخبأة، والتي يطلعني على بعضها أحيانا في مراسلاته لي، وقد كتب لي ليسألني عن الحالة المناخية الملائمة لوقت الكتابة، لأنه لا يستطيع الكتابة إلا حين تتوافر له الحالة النفسية المناسبة للكتابة، وأيضا أن يتوافر المكان الهادئ، وهو يسألني إن كنت مثله أحتاج إلى الظروف ذاتها حتى أمارس فعل الكتابة؟

أنا في حالة الكتابة احتاج بالفعل إلى المناخ النفسي الذي تكون فيه أعماقي مهيأة لقذف ما فيها من اضطرابات وجدانية، واحتياج روحي هائل يجنح بشدة الى الولوج في بوابة التعبير عما فيه، ولإخراج كل ما يعتمل في الداخل، والذي أصبح يشكل عبئاً كابوسياً يثقل الروح والوجدان بصور وأفعال، وأقوال حيوات تتصارع وتتدافع لتصل إلى كوة الخروج، وأجدني مثقلة فيها، وتلتبسني حالة شجن ورهافة، وكأن روحي باتت على شفة جرف، إما أن يبتلعها وإما أن تنجو منه، والنجاة من هذه الطاقة المفترسة هو الانغماس في الكتابة و»زوع» كل ما في الداخل من ضغوطات على الورق حتى يهدأ فوران الداخل.

ولأجل أن أبدأ في الكتابة يجب أن أهيئ طقس الكتابة، فمثلا أهم شرط لكتابة الرواية عندي هو أن أكون في الكويت، وفي غرفتي بالذات، وليس في أي موقع آخر من المنزل، بعدها يجب أن أشحن بطارية وجداني بالموسيقى والأغاني التي لها تأثير علي مثل أغاني اليامال البحرية، أو الأوبرا خاصة أغاني بافاروتي وكارارياس وماريا كلاس، واندريا بوتشلي وأم كلثوم وبعض من الأغاني الخاصة، التي تذكرني بلقطات ما من حياتي، بس المهم أن تكون كل هذه الأغاني محملة بالعنف وبحرارة الأداء، وأعجب من الذين يكتبون على موسيقى هادئة أو فيروزية.

والأهم من ذلك كله قطع الاتصالات مع العالم الخارجي بما فيه بيتي إلا في ما يخص الضرورة.

أما في حالة الشعر فهو لا يحتاج إلى كل هذه التحضيرات، يأتي متى شاء وأين شاء وفي أي مكان، وفي أي حالة كانت، لكنه لا يأتي وأنا بصحبة أي كان من أهل أو أصدقاء، كما أن الشعر يحتاج إلى الخلوة، ولا أقصد خلوة المكان مثل حال الرواية، لكنها خلوة التأمل في أي مكان كان، حتى إن كانت في وسط الضجيج، المهم أن تكون روح الشاعر في خلوتها معراة من الصحبة حتى وإن كانت في أتون يهدر في الضجيج، الوحدة والاختلاء بالنفس مع ارتفاع حالة الشجن والرهافة هي الحالة النفسية المولدة للشعر.

أما المقالة فهي الأسهل في الكتابة لأن عملية الاحتراف فيها تسهل عملية ممارستها، فهي التقاطة إبداعية تُنمى في أي مكان وفي كل حالة، في الخلوة وفي الضجيج، في الانفراد والوحدة ، وفي الصحبة، كتابة المقال هي الكتابة الوحيدة الناجية من تطرف المزاج ومن المناخات النفسية.

لكن في النهاية نجد جميع الكتابات الإبداعية بما فيها كتابة المقال الإبداعي، كلها تحتاج إلى الهدوء وإلى الاختلاء بالنفس والعزلة الاختيارية، فغواية الكتابة مثل الفريك لا تحتاج إلى شريك.