على قدر ما كانت الرحلة إلى سنغافورة ممتعة على قدر ما كانت مؤلمة حين حطت أقدامنا على مطار الكويت، لتبدأ رحلة المقارنة بين قصة النجاح وقصة الخيبة، وبين الإدارة الناضجة والإدارة المراهقة، شعور بالمرارة والكدر والحسرة يغمرك حين تأتي من تلك البلدة النظامية النظيفة المتلألئة التي تفرض غرامات وعقوبات شديدة وصارمة (تصل إلى 500 دولار سنغافوري) لمن يرمي مخلفات كالعلكة أو يدخن في أماكن يمنع التدخين فيها، تصل إلى مطار الكويت ليستقبلك الموظف الحكومي الذي يدقق في الجوازات ماسكا الجواز في يد والسيجارة في اليد الأخرى، نافثاً دخان سيجارته في وجه القادمين وملقياً بعقبها على الأرض، معطياً بذلك انطباعا أكيداً من الوهلة الأولى بمدى تخلف البلد، فمطار الكويت، واجهة البلد، الذي تنتشر فيه لافتات عدم التدخين يكسر موظفوه القانون بكل جرأة وانعدام مسؤولية، يا للعجب، بدلا من العمل على تطبيقه وردع من يتعدى عليه.

Ad

محبط جدا أن تنتقل فجأة من سنغافورة إلى الكويت، لاسيما في هذا الوقت حيث الأزمات المتوالدة وقضايا العنصرية وتعطيل التنمية، ففي تلك الجزيرة الحديثة التأسيس التي نالت استقلالها في 1965، والتي كانت يوما جزيرة بائسة معزولة، لتحقق معجزة التحول، خلال حوالي 40 سنة، من دولة عالم ثالث إلى أول، مستعينة بأهم قيم التنمية وهي الشفافية، فقد عرفت تلك الدولة سر النجاح وشيفرة التنمية المستدامة، فعملت على استثمار الإنسان المورد الوحيد، وفهمت أن التعليم هو الركيزة الأساسية لتطور الشعوب، فأسست نظاما تعليميا فعالا يعتمد على تحفيز التفكير الإبداعي ومهارات الابتكار ويخرج كفاءات عالية قادرة على المنافسة العالمية.

أما التسامح في سنغافورة، يا عيني على التسامح، فهو سيمفونية بيتهوفنية تتناغم فيها الأعراق المتعددة والإثنيات، وتنسجم فيها الديانات المختلفة لتنتج لحن المواطنة الجميل، فالسنغافوريون ينحدرون من ثلاثة أصول رئيسة تشكل فيها الأصول الصينية 65%، والماليزية 24%، والهندية 9%، أما الأعراق الأخرى كالعرب القادمين من حضرموت فيشكلون 2%، كما يعيش معتنقو الديانات المختلفة من بوذية وهندوسية ومسيحية وإسلام وغيرها بحرية وسلام وأمان في مجتمع متسامح متعدد الأعراق والألوان والديانات والمعتقدات، والسبب في ذلك هو تطبيق القانون الصارم الحازم من قبل حكومتهم القوية المستقرة، الأمر الذي عزز مفهوم المواطنة وجعل من احترام القانون والعمل على المحافظة على نظافة البيئة وسلامة المجتمع وتحفيز حس الواجب والمسؤولية جزءاً لا يتجزأ من قيم المواطنة الحقة، وهي قيم جلبت لهم الاستقرار الاقتصادي والأمن المجتمعي والرخاء التنموي، لتتحول سنغافورة من دولة فقيرة معدمة مزدحمة إلى دولة رائدة في الحداثة ومتطورة في البنى التحتية وذات مستوى عال في المعيشة ومركزا للتجارة والسياحة، وينعم سكانها بخدمات صحية عالية الجودة، وبيئة آمنة تقل فيها معدلات الجريمة والمخدرات بشكل كبير، وينضبط فيها المرور بشكل عجائبي بعد تجاوز مشكلة الازدحام الخانق رغم صغر المساحة وتضاعف عدد السكان.

كل ذلك النجاح وأكثر كان بسبب كلمة السر: «الشفافية في الإدارة العامة» من خلال تطبيقهم الصارم لقوانين ضد الفساد ومعززة من تكافؤ الفرص وقيم المواطنة، ولنكتف بمقارنة بسيطة بين بيروقراطية سنغافورة الشفافة الصغيرة الفعالة التي تستند إلى الخبرة والكفاءة وبيروقراطيتنا المتضخمة المعرقلة لكل المشاريع والمعتمدة على الواسطة والمحسوبية المدمرة، والتي تشكل عبئا على الدولة لا عونا لها، ومقارنة أخرى بين تراجعنا للمركز الـ65 في مدركات الفساد وتصدر سنغافورة المركز الرابع في مؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، وإذا عرف السبب بطل العجب.

المشكلة أكبر من سيجارة موظف في مطار الكويت، التي تبدأ بالدلع وتنتهي بالولع، المشكلة مشروع دولة لم يبدأ بعد، ولكنها كانت الشرارة في المقارنة بين قصة النجاح وقصة الكويت.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة