جذبتني أمي بعد الظهيرة من على حافة العتبة، ووضعت في يدي خمسين فلساً، وأمرتني بأن أذهب حالاً لقصّ شعري عند الحلاّق شاكر.

Ad

عندئذ صلصلت في رأسي سلسلة المشقّات المألوفة، التي في قمتها العالية مشقة الجلوس في الانتظار بهدوء وأدب، ومن ثم مشقة الاعتدال فوق الكرسي بين يدي الحلاّق، وآخرها مشقة احتمال لسعات بقايا الشعر التي لابد لها من التوغل نحو جلدي برغم كل الموانع.

وفوق ذلك فإن المهمة بحد ذاتها ستلتهم وقتاً ثميناً هو مما ينبغي أن أنفقه في اللعب قبل أن تغرب الشمس.

غسلت لي وجهي بالصابون، وأجبرتني على لبس النعلين مهددة إياي بهما وهي تضمّهما إلى بعضهما على شكل تحية هندية.

انطلقت كالعاصفة، غير أن يدها سرعان ما ردتني إلى السكون، حين جذبتني من ياقة «دشداشتي»، فشعرت بما يشبه الصدمة، إذ وجدتني فجأة أركض واقفاً!

هتفتْ: ماذا سنقول للعم شاكر؟

لم أكن بحاجة إلى تذكير، فلطول ما كررت تلك العبارة، أصبحت هي التي تقول نفسها من دون أي جهد مني.

رددتُ عليها بلا تردد: أمي تقول لك احلقني تواليت.

ثم أردفت بسرعة: سيحلقني تواليت حتى لو لم أقل له يا أمي. الشهر الماضي كان معي إدريس، ولم يقل أي شيء، لكن شاكر حلقه مثلي. أمي... ماذا يعني تواليت؟

وجمت أمي لبرهة. كان يبدو أنها لا تعرف ماذا يعني، لكنها أبطلت نباهتي فوراً، بصوت احتجاج هارب مثل صيحة ديك مخنوق: هل ستبقى إلى الليل تبحث عن المعاني؟ اذهبْ.

وحيث لم تكن المسافة طويلة، وحيث لم تكن قفزاتي قصيرة، فقد كنت عند باب دكان الحلاق في أقل من خمس دقائق.

قابلني شاكر، حالما رآني، بابتسامة لطيفة حانية، ثم هتف بصوت خفيض مخفوق بالسكّر: أهلاً.

ابتسمت خجلاً، وتوجهت نحو مقاعد الانتظار، وحشرت نفسي بين ثلاثة رجال، في حين كان شاكر منهمكاً في تعرية رأس خامس.

أنست لجلوسي في باحة الدكان الرطبة المناوئة لهجيرة الخارج التي لاتزال تحدّ أسنانها اللئيمة برغم انكسار ضوء الشمس.

دخل رجل ساحباً ولده بحبال هيبته، فضاق المكان بي وبالآخرين، وتلك مشقّة لم تكن بالحسبان، أجبرتني على ترويض عيني في المكان نيابة عن جسدي المحاصر.

رحت أحصي قناني العطر وعلب البودرة، وأخطئ فأعيد الحساب... ثم أخطئ مرة أخرى.

هربت عيني نحو لوحة ورقية صغيرة عالقة قرب الباب، وعليها كلمتان مكتوبتان بالأحمر... حاولت جاهداً أن أتهجاهما، متحدياً مشكلة كونهما عاريتين من التشكيل، كما اعتدت أن أرى الكلمات في كتاب «القراءة الرشيدة».

كان صوتي يكاد يخرج من بين أسناني وأنا أحاول: «الـ... الـ... الأبصق... الابصاق... من... منو... منوع).

تعبت... وأدرت عيني نحو الحلاق، كان شاكر ربعة، ذا وجه صافٍ وأذنين واسعتين منبسطتين بحميمية إلى جانبي وجهه. كان يشبه فريد الأطرش إلى حد بعيد. ليس في ملامحه فقط، بل حتى في طريقة لبسه، وأكثر ما يجمع بينهما في هذا، أن حزام بنطلونه العريض يصل إلى أعلى صدره حتى يكاد يقارب رقبته!

طبطب على كتف فريسته متمتماً «نعيماً»، وما لبث أن أرسل نحونا ابتسامة مضيئة ونادى «تفضّل».

قام أحد الرجال الثلاثة، فاتسّع المكان، غير أن عينيّ غافلتاني، ثانية، وركضتا نحو تلك اللوحة وتعلقتا بها، فيما كان أنفي يكاد يلمس رائحة النفتالين العابقة من الأرضية المبلطة بالحجارة البيضاء والسوداء.

وحاولت من جديد: «الـ... البصق... الابصق...».

أعياني الأمر مرة أخرى، فهربت إلى عد القناني على طاولة الحلاقة. رأيت شاكر يضع «الماكنة» على رأس الرجل الأخير، ويوقع فوقه بمهارة ودقة «طاق طاق طاق» في حين تنهال لفائف الشعر كبيوت يجرفها السيل، وفي لحظات معدودة، كان شاكر قد جرد الرجل من كل شعره، وقال له «نعيماً».

حينئذ قفز في ذهني خاطر بمنتهى الدمامة والخبث. قلت في نفسي: «لقد انتهى منه بسرعة... لابد أن يكون هذا أرخص».

وأوحيت إلى نفسي أن الجهد قد لا يتجاوز ثلاثين أو أربعين فلسا، وفي أي منهما هناك توفير لا بأس به.

أجريت حساباتي مركزاً على العشرة الزائدة في أسوأ الاحتمالات، وانتهيت إلى أنها ثمن معقول مهما كانت التضحية، وقطع شاكر شعرات تفكيري: ابني... تعال.

استويت على الكرسي، ونفض قطعة قماش لفها حول رقبتي، ثم تساءل كعادته، دون أن يكون بحاجة إلى ذلك: ماذا قالت لك أمك؟

أشرت إلى الرجل العاطل عن شعره، فيما هو يخطو خارجاً ثم قلت وأنا أشعر بأن صوتي مثقل بقباحة ذات لون ورائحة: احلقني مثل هذا.

ذهل شاكر، وحدق بي مقطباً: هذا نمرة صفر يا ابني... هل أمك قالت لك ذلك؟!

أغراني الطمع بأن أندفع بالكذبة حتى نهايتها: أمي قالت نمرة صفر.

هز يجيه غير مصدق: عجيب!

لكنه سرعان ما أجرى «الماكنة» فوق شعري المسكين المغدور... كنت أراه في المرآة يتساقط أكواما، ويكشف عن قرعة شخص غريب لا أكاد أعرفه. وكان الألم يعتصرني، لكن خيانتي لنفسي قد تمت، ولم يبق لي إلا ابتلاع غصتي والتركيز على ما سيبقى من قبضة يدي من الخمسين فلساً.

وبسرعة... مسح على جلدة رأسي بماء الكولونيا ونزع قطعة القماش، ونفض فرشاة البودرة حول رقبتي، وهتف: نعيماً.

أخرجت الخمسين من جيبي، ووضعتها في يده... شكرني واستدار ليضعها في الحصالة، فيما بقيت واقفا.

التفت إلي وسألني مستوثقا: أمك قالت لك نمرة صفر؟!

أومأت برأسي إيجابا، وأنا صامت منتظر.

دلق الخمسين المصمتة في الحصالة، ثم قال بلمحة هي خليط من الأسف والتعزية: صفر!

دفع الرجل ابنه قائلا: رح لعمك. ووجه كلامه للحلاق: احلقه تواليت... أسطى.

وانتبه شاكر إلى أني لا أزال واقفاً، فسألني باستغراب: أهناك شيء؟

قلت له ببحة انكسار، وكأنني أستجديه: خلاص؟

أجابني بلطف بالغ: نعم ابني... خلاص، رح للبيت.

دفعت قدمي بصعوبة نحو عتبة الدكان، ولم أكد أبلغها حتى تدفقت دموعي كالطوفان. عندما فتحت باب بيتنا، كان مخاطي يستوقف دموعي المتدفقة ويتناوح معها في باحة نشيجي المحموم... غير أن نشيجي واجه صدمة صاعقة جعلته يقف في بلعومي مخلياً مكان الحزن للرعب.

كانت الصدمة طالعة من صرخة أمي الحادة كالمنشار، وهي ترى أمامها هذا الكائن العجيب ذا الوجه المكفن بالخلائط والمسترسل في بياضه مع جلدة الرأس.

لطمت وجهها مرات عديدة، وهي تصرخ كالثاكل: لم تقل له تواليت؟!

رددت بصوت خافت مختنق بالحزن والخوف معا: قلت له نمرة صفر.

صاحت من قرارة روحها كالملدوغة: نمرة صفر؟ من علمك هذا يا ولد؟!

كانت تهم بضربي ولا تفعل، لعلها رحمت حالتي التي لا تحتاج إلى أي إضافة. لكن شواظ غضبها وحزنها كان يشي بالتنور المندلع في صدرها.

انزويت في ركن الحجرة، معاوداً البكاء، فيما تحلق إخوتي حولي يضحكون.

صاح أخي الأكبر وهو مختنق بالكركرة: لأي شيء فعلت هذا بنفسك؟!

لم أقل لأي شيء. كنت أحاول إكراه نفسي على نسيان ذلك الشيء.

وانتبهت فجأة فرفعت رأسي نحو أخي، وسألته من خلال نشيجي: ماذا يعني «الأبصق منوع؟».

قطب حاجبيه، وهز كتفيه قائلا: الأبصق منوع؟ لا أعرف... من قال لك هذا؟ قلت له وأنا أمسح أنفي بكم دشداشتي: مكتوب على قطعة عند الحلاق.

عندئذ ألقى برأسه إلى الوراء وضج بالضحك: ليس «الأبصق منوع» يا غبي... القطعة تقول «البصاق ممنوع».

عدت أسأله ودموعي تنحدر: ماذا يعني البصاق؟

قال وهو يضحك: يعني التفال... تفّ على يومك.

ابتهجت بلقمة المعرفة هذه، وهتفت: هاااااه!

ثم انخرطت في البكاء من جديد.

* شاعر عراقي