الجهاد أن نحيا في سبيل الله
تصاعدت في الأونة الأخيرة وتيرة العنف والإرهاب، وكثرت فتاوى التكفير والتحريض على القتل باسم الدين وبحجة الجهاد في سبيل الله، لذا سأتطرق باختصار في هذا المقال إلى تباين مفهوم الجهاد (الذي أسيء فهمه وتفسيره وتأويله في أحيان كثيرة) بين الفقهاء والمفكرين الإسلاميين، استنادا، في جزء منه، إلى كتاب «تطور مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي» لمؤلفه الدكتور ماهر الشريف، الذي فرق في دراسته بين الدين والتفسيرات المختلفة، أي بين المقدّس والبشري. فمفهوم الجهاد، هو موضوع فسر منذ القرن الثاني للهجرة حتى الوقت الراهن بشكل متعدد ومختلف حسب الواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي، سواء في كونه «فرض عين» أم «فرض كفاية»، أو بين فهمه كجهاد هجومي «لإظهار الإسلام على الأديان الأُخرى» وحصره في الدفاع عن النفس في حال العدوان.
أما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد كان لرواد الإصلاح الديني دور حيوي في تجديد الفكر الديني وعصرنته وعقلنته وفي دعوتهم لإرساء قيم الحرية والعدالة والتسامح. فبينما يرى جمال الدين الأفغاني الجهاد دفاع المسلمين عن أوطانهم ضد الاستعمار، يفسره تلميذه محمد عبده بمحاربة تخلف المجتمعات الإسلامية والدعوة لنهوضها. كما رأى الكواكبي أن الجهاد يعني النضال من أجل الإصلاح «بالوسائل اللينة لتثقيف العقول»، واعتبر الثعالبي أن قضية الجهاد مرتبطة بشكل وثيق بمفهوم التسامح، داعياً إلى ضرورة «تخليص العقلية الإسلامية من شوائب الجهل والأوهام والتعصب».ليأتي بعد ذلك الانقلاب الفكري لآراء محمد رشيد رضا (والذي أسس لتحول مفهوم الجهاد فيما بعد) حيث ميز بين الجهاد والقتال والحرب مؤكدا أن القرآن تسامح في موالاة ومودة من لا يعتدي على المسلمين، كما اعتبر إلباس الحروب الدينية ثوب الجهاد بدعة الحروب الصليبية؛ ليتحول فكر رضا تحولا جذريا بعد العدوان الإيطالي على طرابلس، وليمهد الأرضية، في نفس الوقت، لتيارات الإسلام السياسي بداية من الإخوان المسلمين الذين أسسوا لقاعدة العنف والإرهاب الحاصل في الوقت الحالي من خلال مفكريها حسن البنا (مؤسس حركة الإخوان المسلمين عام 1928)، وأبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، وعبدالله عزام، وسعيد حوّى. وبينما يرى رواد الإصلاح الديني إيجابيات في الحضارة الغربية، يدعو حسن البنا إلى التخلص من قيم الغرب ومحاربة المؤسسات التي تؤيدها، ليأتي بعد ذلك فكر سيد قطب من خلال كتابه «معالم في الطريق» الذي يعتبر الأكثر تأثيرا وتطرفا وانتشارا في مفهوم الجهاد في الوقت الراهن، حيث رفض تأويل المصلح محمد عبده بما يوافق العقل، ودعا للتمسك بحرفية النص والتخلص من «الجاهلية» من خلال إقامة «حاكمية الله»، وحصر تعريف الإسلام في دارين: دار الإسلام ودار الحرب، كما رأى سعيد حوّى «أن إقامة الدولة الإسلامية «فريضة»، وأن على غير المسلمين أن يختاروا «بين القتال أو الإسلام أو إعطاء الجزية». جاء بعد ذلك «المصلحون الجدد» الذين يتبنون مفاهيم اللاعنف والتسامح وفصل الجهاد عن القتال وعدم خلط مفهوم القتال (المسموح به فقط في حال الدفاع عن النفس) بالقتل، مستندين إلى قراءة معاصرة للنصوص، منطلقين من مبدأ تحريم قتل النفس، داعين إلى عدم الإكراه وضمان حرية العقيدة والاختيار وحرية الضمير والتعبير، رافضين مشروعية استخدام العنف والترهيب وجمود العقل الذي فشل فشلا ذريعا في العمل السياسي. ذلك أن «الخلافات» والدول الاسلامية، التي لم تكن سوى حكومات بشرية صرفة، والتي تحولت إلى حكم بالوراثة، لم تجن غير الاستبداد الديني والفشل بالنهوض بالتنمية والإنتاج وحقوق الإنسان. وتشاء سخرية القدر أن يكون بين هؤلاء «المصلحين الجدد» المفكر الإسلامي المستنير جمال البنا، الذي يرى خلافا لشقيقه (مؤسس الإخوان المسلمين) أن مفهوم الجهاد يكون في «انتزاع حق الحياة بكرامة وليس الموت في المعارك»، حيث يقول «إن الجهاد اليوم ليس أن نموت في سبيل الله ولكن أن نحيا في سبيل الله»، محذرا من استخدام الجهاد «ذريعة للهجوم على الآخرين أو الاستيلاء على أرضهم»، متسائلا «كيف نقبل الحرب دفاعا عن أنفسنا وعقيدتنا ثم نقبل الحرب هجوما على الآخرين وعقيدتهم؟». كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء