استن المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري تقليداً حسناً بزيارتـه لضيوف «الجنادرية» في محل إقامتهم بالرياض. وكان الشيخ عبدالعزيز اليد اليمنى (للأمير في حينه)، الملك عبدالله بن عبدالعزيز في إدارة «الحرس الوطني»- حيث أذكر أني زرته في مكتبه برئاسة الحرس بالرياض- كما كان ساعده الأيمن في التأسيس للجنادرية التي أصبحت معلماً ثقافياً وفنياً سعودياً ناجحاً لعقود من الزمن حتى الآن. وفي وقت تأسيسها أحسست بأنها حاجة عربية ملحة لأن الخلافات السياسية بين الدول العربية أغلقت حدودها في وجه المطبوعة الثقافية من الدول العربية الأخرى- قبل ظهور الإنترنت- الأمر الذي كان يهدد بتجزئة الثقافة العربية بمنظور محلي. وهي نتيجة كان، في تقديري، أنه يجب تفاديها لأن الثقافة في النهاية أساس وحدة الأمة، لذلك فقد بادرت إلى دعم فكرة الجنادرية، وبرامجها الثقافية بالذات كملتقى ثقافي عربي موحد، وكان لي إسهام متواضع أعتز به، مع الشيخ عبدالعزيز، في التأسيس لتلك البرامج في السنوات الأولى.
كان عبدالعزيز التويجري شديد الحرص على التحاور مع ضيوف الجنادرية في «الهموم» العربية. وأذكر أنني، ذات لقاء، وقفت لأقول له أمام الحضور واعتقد أن بعضهم يتذكر ذلك: إن الكتابة عن السعودية تمثل «مشكلة» أو «إشكالاً». فثمة ثنائية مزدوجة غير صحيّة في الكتابة عنها بين مَن «يمدحون» بخطاب التباهي المتلبس بادعاء النقاء والطهورية الجوفاء، وهو أسلوب عفا عليه الزمن، ومله الناس، وبين مَن يهاجمون بغريزة العدوانية والكراهية والحقد... فيخربون ولا يصلحون والاثنان.... «المادح» و»القادح» يفعلان ذلك لغرض في نفس يعقوب، والضحية هم القراء الباحثون عن الحقيقة... حقيقة ما يجري في السعودية ودول الخليج وما تشهده مجتمعاتها من أحداث وتطورات.أذكر عندما كنت مقيماً في باريس، أن كتبت صحيفة فرنسية، أظنها «اللوموند»، موضوعاً غير منصف عن السعودية. وكان سفيرها حينئذ في العاصمة الفرنسية الدبلوماسي العريق الأستاذ جميل الحجيلان، ومستشاره في السفارة الدبلوماسي المقتدر الأستاذ محمد صادق مفتي. وأذكر أن مفتي رد على «اللوموند» رداً بدا في نظري في منتهى الواقعية، حيث قال: إننا لا نزعم بأن السعودية فردوسٌ، كما أنها ليست جحيماً، وإنما هي مجتمع من المجتمعات الإنسانية يصدق عليها ما يصدق على هذه المجتمعات من سنن وأحكام. أعتقد أن هذا هو المنطلق الإعلامي والعلمي الصائب للكتابة عن السعودية ودول الخليج وغيرها.والإشكال أن بعض الكتاب، بل أكثرهم، ومعهم بعض المسؤولين في الدول الخليجية يتصورون خطأ، تحت هاجس الخوف، أن أصحاب القرار لا يريدون كلمة نقد واحدة حتى لو كانت مخلصة وإيجابية ولا حتى الاقتراب من الموضوعات الحساسة أو الحيوية فيبالغون في الابتعاد عن دائرة النقد والتحليل الموضوعي ويقعون في المديح الممجوج والرخيص، ظناً منهم أن هذا هو المطلوب، فيتخلون بذلك عن أداء واجبهم الذي ينتظره القراء منهم.قبل حوالي ثلاثين عاماً، وجدت التوقيت السياسي مناسباً لبدء حوار بين الرياض وموسكو، أو بالأحرى لعودة الحوار والعلاقات بينهما بعد أن «جمدّت» الرياض ذلك لأسباب عقيدية وسياسية لا تخفى على العارفين بملامح تلك الفترة. وهذا ما كتبت بشأنه مقالاً- في حلقات- بعنوان: «حوار الرياض موسكو من منظار استراتيجي».بعثت هذا المقال، بدايةً، إلى منبر إعلامي سعودي خارج السعودية للنشر. وبعد فترة عاد إليّ المقال على عنواني في باريس. وفهمت ذلك «الاعتذار الصامت» وابتسمت له في سري، لكني لم أيأس بالنسبة لإمكانية نشره، فقمت بإرساله إلى الأستاذ تركي السديري، رئيس تحرير صحيفة «الرياض» السعودية وكان الرجل العصامي عند حسن ظني- وهـو يعتبر اليوم «عميد» الصحافة السعودية والخليجية الوطنية المستقلة التي لم تعتمد على «أقلام» الآخرين.وبطبيعة الحال فقد كان الموضوع في وقته حساساً. وصحيفة «الرياض» تصدر في عاصمة المملكة العربية السعودية أي في قلبها. وحسب معلوماتي- وأنا أتحمل مسؤوليتها- فإن رئيس تحريرها وجد من الضروري مخاطبة أحد كبار المسؤولين بشأنه، وأوضح له أن نشر مثل هذا الموضوع هو للمصلحة العامة، وينبغي الخروج من حساسيته. ووافق المسؤول الكبير على ذلك (وكان هذا المسؤول الكبير قارئاً ممتازاً واشتهر بـ»أمير الصحافة»)، ولم يجد أي غضاضة في نشره. وهكذا كان! وظهر المقال في حلقات.وفي النهاية لابد أن أعود إلى إشكالية الكتابة عن السعودية ودول الخليج، بين مادح وقادح... إن استمرار هذا «النمط الثنائي» قد أوقع رقيب المطبوعات في «كمين»!... فجعله يفضل استمراره بين أبيض وأسود لأن ذلك يريحه، ويجعل اتخاذ قراره بالموافقة أو المنع عملية سهلة فالأبيض أبيض... والأسود أسود. هذا في الظاهر أو الشكل. أما في الحقيقة، فاللونان خادعان وضاران أشد الضرر وأحدهما ليس سوى الوجه الآخر للثاني.في أهم كتبه السياسية- الإعلامية، ينبه الدكتور غازي القصيبي إلى أن الصحافة الحديثة الناجحة في الغرب تبحث عن «المعلومـة» أياً كانت... سـواء كانت ذات لون «أبيـض» أو «أسود»، وأن «الشطارة» تكمن في كيفية إيصال تلك «المعلومة» إلى الصحافيين والإعلاميين... والقصيبي، في هذا الكتاب القيّم المعنون («أمريكا والسعودية: حملة إعلامية أم مواجهة سياسية» الصادر عام 2002 عن المؤسسة العربية ببيروت) والمهدى إلى «وزراء الإعلام العرب... مع كثير من الشفقة»!، يتناول بالتحليل والشهادات البحثية الموثقة جوانب القصور الإعلامي (والسياسي) العربي، والسبيل إلى معالجته (مع عدم إعطاء وعود وردية كثيرة!). وهو يصلح مرجعاً عملياً لإصلاح هذا الخلل.والخلاصة أن زمننا يفرض علينا أن نتعلم، ككتاب، التحليل الموضوعي الذي لا يخشى إيراد الحقائق ذات الصلة بحثاً عن الحقيقة... فهل نتعلم؟... وعلى «الرقيب الإعلامي» أن يستعد لذلك!* مفكر من البحرين
مقالات
اشكالية الكتابة عن السعودية ودول الخليج بين مادح وقادح!
27-08-2009