صَهر الوعي لوليد دقة... استهداف الروح والعقل في السجون الإسرائيليّة

نشر في 02-06-2010 | 00:00
آخر تحديث 02-06-2010 | 00:00
صدر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» وعن «مركز الجزيرة للدراسات» كتاب «صهر الوعي: أو في إعادة تعريف التعذيب» للأسير والكاتب الفلسطيني وليد نمر دقة.

في تقديمه للكتاب يعتقد عزمي بشارة أنه لم يكن ممكناً أن تقال الحقيقة، ولا أن تفند الكليشيهات والشعارات حول ما يجري داخل السجون الإسرائيلية، إلا من أسير مناضل وباحث في الوقت نفسه. لديه الثقة بالنفس والحرص الوطني والثقافة اللازمة في الوقت ذاته لمواجهة نفسه وغيره بالحقيقة من دون أن يزايد عليه أحد. وهي الحقيقة نفسها التي لا تحدد تغير طبيعة العلاقة بين المحتل والواقع تحت الاحتلال منذ أوسلو فحسب، بل تحدد المهمة النضالية المقبلة أمام الحركة الوطنية في السجون أيضاً.

يتابع بشارة، بأن للكتابة عن السجون حساسية لا يدركها إلا من عاشها. فالأسرى مشغولون بأدق التفاصيل، تستحوذ عليهم أمور تبدو من خارج السجن قليلة الأهمية، لكنها مصيرية بالنسبة إلى الأسير، تماماً كما التأخر في الرد على رسالة ينتظر عنها جواباً ولو من سطرين تقول إن الرسالة وصلت والقضية قيد المعالجة. فكل تفصيل صغير يهم، وكل لفظ يُفسر ويُأول. وإذا صح ذلك بالنسبة إلى التفاصيل الصغيرة من حجم قطعة الخبز وحتى قطعة الصابون، فكيف بتشخيص جريء وشامل لحال السجون السياسية. فلا يجوز أن يتم التوصل إلى حلول سياسية والأسرى في السجون، ولا يجوز انتظار الحلول لإجراء عمليات تبادل لتحرير الأسرى كجزء من النضال الجاري، وكإنجاز في الطريق.

سجون

يشير دقة في كتابه إلى أن الأسير الفلسطيني في السجون الإسرائيلية يشعر بحالة من العجز نابعة من صعوبة توصيف حالة القمع التي يعيشها منذ بداية الانتفاضة الحالية. فقد أصبح القمع والتعذيب مركباً حداثوياً يتماشى مع خطاب حقوق الإنسان، إذ يحتاج هذا الأخير ومؤسساته إلى جهد خاص لإثبات بعض الخروقات التي تقدم غالباً من القضاء والإعلام الإسرائيلي على أنها استثناء في قاعدة الالتزام بحقوق الإنسان والأسرى. فيصبح الكشف تغطية، والشفافية تعتيماً والحقائق إخفاء للحقيقة.

يفسر الكاتب معنى القمع الحداثوي، إذ يعتبر أنه قمع مخفي ويُقدم على أنه استجابة لحقوق الإنسان، هو قمع لا صورة له، ولا يمكن تحديده بمشهد. إنه مجموعة من مئات الإجراءات الصغيرة والمنفردة، وآلاف التفاصيل التي لا يمكن أن تدل مفردة على أدوات للتعذيب، إلا إذا تم إدراك الإطار الكلي والمنطق الذي يقف وراء هذه المنظومة.

يضيف دقة أن القمع والتعذيب في السجون الإسرائيلية لا يشبهان حالات القمع التي تصفها أدبيات السجون في العالم. فلا حرمان فعلياً من الطعام والدواء، ولا محرومون من الشمس ومدفونون تحت الأرض، ولا يُكبل الأسرى كما في الروايات بسلاسل مشدودة لكتل حديدية طوال النهار. فلم يعد الأسير الفلسطيني في عصر ما بعد الحداثة هو المستهدف مباشرة، وإنما المستهدف هو الروح والعقل. والأسير الفلسطيني اليوم لا يواجه ما كان يواجهه المساجين في السجون الفاشية أو النازية، والوضع في السجون الإسرائيلية كذلك مختلف عن الوضع في سجن أبو زعبل أو سجن أبو غريب أو سجن غوانتانامو من حيث شروط الحياة. ففي كل هذه السجون يمكن معرفة المعذِّب وشكل التعذيب وأدواته المستخدمة. أما في السجون الإسرائيلية فثمة مواجهة تعذيب أشد وطأة «بحضارته» يحوّل الحواس والعقل إلى أدوات تعذيب يومية، يأتي هادئاً متسللاً، ويعيش مع الأسير رفيق الزنزانة والزمن والباحة الشمسية والوفرة المادية النسبية.

عجز

يؤكد المؤلف أن حالة فقدان القدرة على تفسير الواقع والإحساس بالعجز وفقدان الحيلة لا تقتصر على السجون، ولا هي نصيب الأسرى وحدهم، وإنما هي حالة فلسطينية عامة، حيث تتطابق ظروف المواطنين في معازل جغرافية منفردة، كما الأسرى في أقسام وعنابر لا صلة بينها إلا بإرادة السجان، وإنما ثمة تشابه جوهري يتصل بالهدف الذي يريد سجانهم تحقيقه في كلا الحالتين. وهذا الهدف هو إعادة صياغة البشر وفق رؤية إسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما وعي النخبة المقاومة في السجون. بالتالي، فإن دراسة حياة الأسرى كعينة مصغرة عن حياة المواطنين في الأراضي المحتلة يمكنها تبسيط الصورة وإيضاحها لفهم المشهد الفلسطيني برمته.

يرى دقة أيضاً أن الشبه بين السجن الصغير والسجن الكبير لا ينتهي عند هذا الحد. بل ثمة تشابه في القراءة الخاطئة والمعالجات التقليدية العاجزة عن النهوض بالقضية الفلسطينية كما هو النهوض بقضية الأسرى. فالنماذج الحاضرة في أدبيات القوى السياسية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، أو قراءة سياساته، ما زالت نمطية تستمد شكلاً ومضموناً من أدبيات التحرر وتجاربها التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وتشكلت في ظل الحرب الباردة، وفي مرحلة حضارية مختلفة عما نواجهه اليوم. فكما أن أدب السجون لا يعكس واقعها اليوم، فإن الأدبيات السياسية وفرضياتها عاجزة عن معالجة الواقع السياسي. وبينما يواجه الفلسطيني منذ أكثر من 15 عاماً، واقعاً يستمد المحتل أفكاره ونظرياته وأدواته القمعية من واقع حضاري ما بعد حداثوي، فإن القوى السياسية الفلسطينية تبدو عاجزة عن تشخيص واقعها، وتقديم تفسيرات وحلول قادرة على استنهاض الجماهير، أو على الأقل منحها الإحساس باليقين، حتى وإن جاء هذا اليقين على شكل تفسير لكوارثها. فالأدوات والمفاهيم الفلسطينية عن الواقع غدت بحد ذاتها أدوات للقمع والتعذيب. وهي تقود على رغم التضحيات المتتالية إلى طريق مسدود. فتصبح حال الفلسطينيين كمن يواجه حرباً نووية بسيف، فتصبح المسافة بيننا وبين أدوات تغييرنا للواقع والواقع ذاته شاسعة، بحجم المسافة بين التاريخ والمستقبل.

عنصرية

يعلن الكاتب أن دراسته هذه تدعي بأن الهدف النهائي الذي تسعى الحكومات الإسرائيلية إلى تحقيقه منذ السنة الثانية للانتفاضة يختلف عمّا أرادت الحكومات الفلسطينية تحقيقه عبر سياسة الفصل العنصري. فالهدف ليس الفصل العنصري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإنما العنصرية هي أداة لتحقيق الهدف الأساسي الذي هو إعادة صهر الوعي الفلسطيني بما يتسق ومشروع الدولة العبرية. والعنصرية الإسرائيلية في هذا السياق ليست عنصرية إسرائيلية منفلتة وغير عاقلة كالعنصرية التي يمثلها المستوطنون، وإنما عنصرية منظمة تقف وراءها كامل المؤسسة الإسرائيلية بمنطقها وتبريرها القانوني والأخلاقي. فقد أدركت إسرائيل أن المشكلة الحقيقية ليست مع القيادة الرسمية والمفاوض الفلسطيني، وإنما مع الشعب الفلسطيني الذي يرفض سقف الرؤية الإسرائيلية للحل ويبدي استعداداً للمقاومة بما يجعل رافد الفصائل المقاومة من المقاومين لا ينضب، ويحول أي تسوية مع المفاوض الفلسطيني خطوة مستحيلة التطبيق.

يفيد الباحث بأن الأسير- الجسد لم يعد هو المستهدف، ولا تعذيبه بالحرمان المادي والتجويع وإنما الروح والعقل هما المستهدفان، والوفرة المادية هي إحدى وسائل التعذيب الحديث. بالتالي، فقد بات من الضروري إعادة تعريف التعذيب والقهر والقمع والاضطهاد وكشف تفاصيله الحداثوية المركبة. فالأسير يسحق ويعذب بين شكل الزمن الثابت في علب المكان داخل السجن، وبين محتوى الزمن الذي تحرر من أعباء المكان وأصبح في زمن ما بعد الحداثة بسرعة الإلكترون. فالمتغيرات في واقع المكان والحضارة والناس، التي كانت تحدث خلال عام من الأسر قبل 20 عاماً، هي أقل بكثير قياساً بما يتغير خلال عام في وقتنا الحاضر. وما يفقده الأسير من صلة بواقعه خارج الأسر خلال أشهر قليلة ويجعله فاقد الصلة بالحضارة والناس وقيمهم وعلاقاتهم الاجتماعية. فيتحول خلال أعوام قليلة في السجن إلى متخلف قياساً بالواقع خارج السجن. هذا الفارق يحول، في زمن قياسي، الأسير الفلسطيني إلى فاقد صلة بالواقع وهو ما يستغله الاحتلال بأجهزته كافة بما فيها إدارة السجون لتكريسه وتعميقه لفصله كلياً عن أي مشروع وطني أو تفكير جماعي ويدفع به إلى الاغتراب كلياً، فيصبح كافراً بالنضال أو في أحسن الأحوال يحوله إلى عبء على شعبه وقضيته الوطنية.

back to top