«مفتي هدم المسجد الحرام»
هل أتاكم نبأ «مفتي هدم الحرام»؟ إنه أستاذ جامعي معروف وداعية وشيخ ودكتور، له تلاميذ وأتباع ويقوم بالتدريس في كلية للشريعة بالمملكة العربية السعودية، أطلقوا عليه- أخيراً– لقب «مفتي هدم المسجد الحرام»، هل تعلمون ماذا قال؟ وإلامَ «دعا»؟ ولا أقول «أفتى» لأنها غير جديرة بأن تكون «فتوى»، ولكن جرت عادة الناس أن يصنفوا أي رأي لشيخ دين «فتوى» وهذا خطأ؟! لقد خرج هذا الشيخ الداعية على الملأ وعبر قناة فضائية ليعلن بكل جراءة وليدعو بكل وضوح إلى «هدم المسجد الحرام بشكل كامل وإعادة تصميم وبناء منطقة الطواف التي تحيط بالكعبة المشرفة، طوابق متعددة، 10 أو 20 أو 30 طابقاً» وتساءل قائلاً: «ويش المانع يا أخي بهدم المسجد كاملاً ويبنى من جديد؟»، ولكن لماذا يطالب هذا الفقيه الداعية بهدم المسجد الحرام وبنائه من جديد؟! إنه لا يطيق الاختلاط بين الجنسين في السعي والطواف حول الكعبة، ويستهدف بناء المسجد الحرام «30» دوراً ليخصص أدواراً لطواف الرجال وأدواراً أخرى لطواف النساء، وبذلك يحل معضلة الاختلاط العويصة كما يراها!
بطبيعة الحال، نحن لا نصادر حرية الشيخ في التعبير عن وجهة نظره ولا نطالب حتى بمساءلته أو عزله وإبعاده عن التعليم، ولكن كان الله في عون طلابه، فإذا كان قد تجرأ على إعلان هذا الرأي الشديد الغلو على الملأ، فماذا يقول لطلابه في الحجرات المغلقة؟ وماذا ينتظر من هؤلاء الطلاب عندما يتخرجون ويتولون مناصب الدعوة والإفتاء والتعليم؟ من حقنا وحق الآخرين، بل من واجبنا جميعاً أن نرد على الشيخ، ونبين له خطأه ونبصره بالصواب، فما دعا إليه أمر خطير لم يسبقه إليه أحد من العالمين، وليس من حق الشيخ أن يثور ويتهم ناقديه، وهم كثر، بأنهم حرفوا أقواله وأساؤوا فهم مقاصده وأهدافه ونياته، فهو ما أراد إلا الحسنى، أي توسعة المسجد الحرام ليستوعب «15» مليونا من المصلين، وإكرام المرأة وحمايتها من أذى الاختلاط والتزاحم. لا يحق للشيخ أن يتنصل من أقواله، ولا يوجد مجال للإنكار، فأقواله شاهدة عليه ومسجلة بالصوت والصورة وواضحة وصريحة، فلا مجال لسوء الفهم، فقد أطل الشيخ من خلال برنامج «زد رصيدك» على قناة «بداية» واقترح هدم المسجد الحرام كاملاً كحل لمشكلة الاختلاط حول الكعبة المشرفة. ولمن أراد أن يتأكد فما عليه إلا الرجوع إلى موقع «youtube» والعديد من المواقع الإلكترونية في تاريخ 21-3-2010، وأما تبريراته بأنه أراد التوسعة، فهذا ليس شأنه بل شأن الدولة التي ترصد المليارات سنوياً من أجل التوسعة، وشأن المكاتب الاستشارية الهندسية، وليس شأن الفقيه الذي لا علم له بهذه المسائل– حتى في أمور الهندسة يزاحمون– أما تبريره بأنه أراد إكرام المرأة فهو عذر أقبح من ذنب، فأي إكرام للمرأة وهو يسيء الظن بها ويتشكك في ضمائر الملايين من المسلمين الذين يقصدون بيت الله الحرام؟! وكما تساءل الكاتب عبدالله حسن العبدالباقي: أي إيمان هذا الذي يجعل المسلم في بيت الله يفكر بالشهوة؟! وهل المسلمون حيوانات جنسية لا همّ لهم إلا جسد المرأة حتى وهو قبالة الكعبة المشرفة؟ وأي دين هذا الذي لا يهذب سلوك معتنقيه؟ وهل سمعتم يوماً والحج بالملايين حادثة واحدة جنسية في الطواف أو السعي رغم تزاحم الأجساد وشدة الاختلاط؟! وهل المسلمون ضعيفو إيمان للدرجة التي تجعلهم يفكرون بجسد المرأة وهم آتون إلى مناجاة الله في بيته؟!وبدل أن يعترف الشيخ بخطيئته ويراها زلة لسان، ويعتذر للملايين من المسلمين الذين أساء إليهم، ويطلب من الله العفو والمغفرة وجدناه– مكابراً متحججاً– يهدد برفع دعاوى قضائية ضد من ردوا عليه، ويطالبهم بالاعتذار علناً! سبحان الله! هل تصل المكابرة إلى هذا الحد؟ إن أقوالك فضيلة الشيخ مرصودة ولم يتجنَّ عليك أحد، وهناك من تلاميذك من أيدك، وقال: سوف تضطر الدولة لتطبيق اقتراح الشيخ مستقبلاً، لماذا لا تعتذر أيها الشيخ اعتذاراً جميلاً، فقد جرحت مشاعر مليار مسلم، وتعديت على قدسية بيت الله؟! التبريرات والمراوغات والتهرب واتهام الآخرين! لماذا لا يعتذر المشايخ؟! أليسوا بشراً يصيبون ويخطئون؟ هكذا تساءل الكاتب صالح الشيحي في مقالته: (حتى لا يسموك "أبرهة عصره") وقال: لا نجد عالماً صغيراً أو كبيراً يخرج للملأ ويقول: أعتذر لقد أخطأت، لا أحد يعتذر! وأجاب الكاتب صالح إبراهيم الطريفي عن هذا التساؤل بقوله «حتى لا يفقد الشيخ الهالة التي تحيط به وتتزعزع مكانته في نفوس أتباعه»، إننا أمام حالة تستحق الدراسة والتحليل، حالة مصابة بـ«فوبيا» الاختلاط، وهي حالة تصل بصاحبها إلى «الهوس» المرضي وجنون الارتياب في أن أي اختلاط بين الجنسين يصاحبه انحراف جنسي، ومن يدري فهذا الذي يطالب اليوم بهدم الحرم المكي سيطالب غداً بهدم المسجد النبوي منعاً للاختلاط؟ إن هذا الهوس الجنسي بكل ما له علاقة بالمرأة قديم، كما يقول الكاتب محمد الحمادي: رفضوا تعليم المرأة خوفاً من الاغتصاب، وعارضوا عمل المرأة خوفاً من الخلوة، ومنعوها من قيادة السيارة لأنها طريق للرذيلة! إن تحريم الاختلاط في أماكن العبادة يشكل قمة الارتياب المرضي. كنت كتبت قبل عقود أن الإسلام لم يحرم الاختلاط بل نظمه، ولو أراد تحريمه لأمر بمسجد للرجال وآخر للنساء، ولخصص وقتاً لطواف الرجال ووقتاً للنساء، وكنت في ذلك تبعاً لفقهاء مستنيرين منهم الشيخ الغزالي– رحمه الله– والشيخ القرضاوي وغيرهما وبقيت مسألة الاختلاط في الحج تشكل تحدياً مستمراً لأعداء الاختلاط، وبقيت غصة في حلوقهم ومعضلة تؤرقهم حتى اهتدى أحدهم إلى هذه الفكرة الجهنمية لحل معضلة الاختلاط في الحج، والشيخ ليس وحده في هذا الموقف، فهناك مشايخ معه لم يفصحوا، وما هو إلا قمة جبل الجليد التي ظهرت، هناك شيخ آخر تساءل: لماذا لا نخصص وقتاً لطواف النساء وآخر للرجال، وحاول أن يحل مشكلة الاختلاط بأقل التكاليف، دعونا نتساءل: هل فكرة بناء «30» طابقا حول الكعبة تشكل حلاً؟ وما عقوباتها؟ ولو طبقنا فكرة الشيخ وأحطنا الكعبة المشرفة بالطوابق العالية فإنها ستكون معاصرة ومحجوبة، ولن ترى على مد البصر، وهذه أكبر جناية على بيت الله وعلى الكعبة المشرفة، هذه الكعبة ذات البهاء والجلاء التي ما إن يقع بصر القادم إليها– حاجاً أو معتمراً من بعيد، حتى يمتلئ قلبه بمشاعر هي مزيج من الإشراق والنور والمهابة للبيت، وتمتلئ النفس صفاء، ويخشع القلب، وتدمع العين، وينطلق اللسان حامداً مكبراً، يريد هذا الشيخ ببنائه العالي حجب أنوار بيت الله عن الأبصار، بالله عليك هل هذه فكرة؟! نحن اليوم مستاؤون من المباني والفنادق العالية حول الحرام ونرى أنها تحجب أنوار البيت وإشراقاته، وهذا يريد مزيداً من الحجب والحصار للبيت خوفاً من الاختلاط، هدى الله الشيخ ونور بصيرته إلى الحق، ثم إني أتساءل وأتعجب من المواقف المتناقضة لهؤلاء! يحرمون الاحتفال بالمولد النبوي ويرونه بدعة، ولم يعملها الصحابة ولاالسلف من بعدهم، إذن لماذا يطالبون اليوم بأمر لم يعمله الرسول– عليه الصلاة والسلام– ولا الصحابة ولا أحد على امتداد 14 قرناً، وحتى اليوم؟! أليس ما يطالبون به بدعة محرمة؟! أن نقول: لماذا هذا الغلو في منع الاختلاط؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ في خلال عشرة أيام فقط، يفجر الشيخ البراك فتوى بقتل مبيح الاختلاط، وهذا يريد هدم المسجد الحرام لمنع الاختلاط، أي من القتل إلى الهدم، فلماذا هذا الانشغال بهذه القضية في الساحة السعودية؟! يجب ألا نفصل هذا الغلو والتشدد عن السياق السياسي والاجتماعي الذي يجري على المسرح السعودي، فهناك اليوم حراك نهضوي كبير بقيادة الملك الإصلاحي من تجلياته: مراجعة المناهج وتنقيتها من شوائب التكفير والتحريض والعنف، وارتفاع سقف حريات التعبير ومعرض الكتاب السنوي بالرياض كان نموذجاً بمنع مصادرة أي كاتب، وكان تظاهرة ثقافية كبيرة، وابتعاث آلاف الطلاب لأفضل الجامعات في الخارج، والسماح بتعليم مشترك بجامعة الملك عبدالله «كاوست» استراتيجية للأمن الفكري تتصدى للفكر الإرهابي، ومهرجان الجنادرية في عامه الـ25 وانعكاساته التنويرية على المجتمع، وأخيراً «وهذه قضية مهمة» استضافة الملك عبدالله حرم سمو أمير دولة قطر الشيخ موزة بنت ناصر المسند، رئيسة مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع وسيدة قطر الأولى، حيث قابلت الملك وقامت بزيارة العديد من المؤسسات التعليمية، وألقت محاضرات تنويرية داعمة للنهوض بالمرأة السعودية، ومحفزة لطاقاتها ومعززة لحقوق المرأة الخليجية عامة، ولا شك أن هذا الانفتاح الاجتماعي لا يرضى عنه هؤلاء المتشددون فيزدادون غلواً وتشدداً. *كاتب قطري