في الستّينيات قرأت رواية الفرنسي أناتول فرانس: «تاييس»، بترجمة عادل زعيتر. وعادل زعيتر كان معنياً آنذاك بترجمة نصوص كلاسيكية تتميز بالأساليب البلاغية العالية، ومازلت أستعيد النشوة المولّدة من النثر المتعالي، ومن الموضوع الدرامي بين الرغبة الشهوانية والتسامي التبتّلي الديني. فيما بعد تعرفتُ إلى «تاييس» الأوبرا.
بعد سنتين من صدور «تاييس» في باريس (1890)، باشر الموسيقي الفرنسي «يوليس ماسينيه» تأليف أوبرا عنها مستعيناً بالنص الذي أعدّه الشاعر «غاليه». يوليس ماسينيه (1843-1912) بدأت شهرته مع عرض «هيروديا»1881، وتألقت مع «مانون» الأثيرة. ثم توالت أعمالُه المتسمة بغنى الألحان وحلاوتها: «دون كيشوت»، «ملك لاهور»، «لاسيد» (أو السيد...)، «الام فيرتر»، «فتاة نافار»، «سندريلا»، و«تاييس»...كان شديدَ التأثر بتقنية «الموتيف» الفاغنري (اللحن الذي يرتبط بشخص، أو فكرة، أو حالة)، وأعماله بجملتها تنم عن إدراك عميق لأهواء الإنسان ومشاعره، لكن الغفلةَ سرعان ما طوت ذكر «ماسينيه» بعد وفاته، خصوصا بعد أن تلاطمت تيارات الحداثة الموسيقية وتطلعاتها المضادة للامتدادات الرومانتيكية، في العقود الأولى من القرن العشرين.مع نهايات القرن العشرين، عادت الرغبة في تفحّص الأصوات الموسيقية المطمورة بفعل التعصب، وردود الأفعال، ومحاولة انتشالها من النسيان، وكان ماسينيه واحدا من أبرز هذه الأصوات.موسيقى «تاييس»(صدرت في DVD عن شركة Decca) والدراما فيها تجعلها جوهرة حقيقية، صحيح أن عددا من الشخوص فيها لا يشكل إلا ظلالا، إزاء تفرد الشخصيتين الرئيستين: «تاييس»، الغانية في حاضرة إسكندرية مصر الرومانية، القرن الرابع الميلادي، و»أثانيل»، الراهب المتبتل في عزلة العبادة، لكن دراما الراهب والغانية وحدهما تكفي لإغراق المستمع في بحر الأهواء والغرائز لساعة وخمسين دقيقة.الأوبرا في ثلاثة فصول: في الأول نتعرف إلى الراهب «اثانيل» في عزلة الصحراء، وهو مهموم بفساد الاسكندرية، وما تثيره الغانية «تاييس» من إغواء، كما نتعرف على «تاييس»، في بيت الثري «نيسياس» وصحبه الغارقين بمتع الحواس، فجأة يدخل «اثانيل» ويتفق مع «تاييس» على أن يلتقيا على انفراد في بيتها. في الفصل الثاني يواجهها الراهب وهي في غمرة تأملها الحزين في حياتها العابثة، وبين دعوته إلى أن تهتدي فتتبعه في طريق الله، وبين صوت «نيسياس» القادم من الخارج، يبدأ تمزقها الروحي. هنا ينفرد بنا لحن «تأمل» (Meditation) الشهير (فايولين واوركسترا)، ليصف لنا باللحن وحده تحولات «تاييس» الروحية، عبر ليل عزلتها بنفسها. في الصباح تصحبُ «اثانيل» الى الصحراء. في الفصل الثالث نجدهما في واحة صحراوية وقد أنهك «تاييس» الإجهاد وأدمى قدميها، هنا يرقُّ لقاؤهما في واحدةٍ من أعذب الحواريات التي عرفتها الأوبرا. بعد قليل يحصل الفراق، حين تقبل الراهبات ليأخذن «تاييس»، ويسقط «اثانيل» في هوة عاطفة الحب الكامنة فيه. وهكذا ينصرف هذا الفصل إلى تحولات الراهب، كما انصرف الفصل الثاني إلى تحولات «تاييس»، انها تسامت عن ملذات الدنيا، بينما انحدر هو إليها بفعل يقظة جسده. تستحوذ عليه في عزلته أحلام الشهوة، لكنه يرى «تاييس» تموت بفعل مشاق الرهبنة، فينحني إليها لتموت بين يديه، مستعيديْن في لحظات آخرَ لقاء لهما في واحة الصحراء، هي التي لا ترى غير أجنحة الرحمة الملائكية، وهو الذي لم يعُد يرى إلا الحب الدنيوي. إن أروع ما في هذا الإصدار اشتراكُ مغنّيَين مقتدرين، ارتفع نجمهما في السنوات العشرة الأخيرة: السوبرانو الأميركية رينيه فليمنغ (Flemig) والباريتون الأميركي توماس هامبسون (Hampson). مع الأخير تابعنا كيف تلاحق الموسيقى الكلمات على شفتيه، وتفضح سرَّ تكتّمه الذي يخفي رغائب دفينة حارة، وقد ألقت «تاييس» الضوء على ذلك في أول لقاء بينهما: «... لمَ تُنكر النارَ التي تأتلق في عينيك؟». ومع الأولى نلتقي بالصوت المناسب لـ»تاييس»، في غمرة اللذاذة الدنيوية (الفصل الاول)، وفي تساميها الذي يبلغ صوتُها فيه الذُرى، خاصة في وداع اثانيل: «سوف نلتقي ثانية في المدينة السماوية».
توابل
تاييس لعبة العواطف المميتة
18-02-2010