كنتُ ذكرتُ، في عمودي هذا، اسم الشاعرة الفرنسية، اللبنانية الأصل، فينوس خوري غاتا، بعد أن سمعتها في قراءة شعرية في استوكهولم.

Ad

وكنت أشرت إلى أن ترجمةً لمختارات من شعرها صدرت عن دار Carcanet في لندن، وأنّ سماعها وهي تقرأ بالفرنسية، التي لا أُحسنها، بطلاقة تليق بممثلة فرنسية على خشبة مسرح كلاسيكي، في هيئة تُشبه بطلة أسطورية من رخام أبيض، كان كفيلاً بإثارة حماسي لقراءة مختاراتها، وتقديمها إلى القارئ.

مجموعتُها الشعرية تضمُّ قصائد قليلة، لكن طويلة نسبيا، حاسمة، منذ القصيدة الأولى، ومنذ مطالع قصائدها كلها، بأن تدخل الأسطورةَ، ساحبةً بإرادة لا مرد لها جذورَها المحترقة في لبنان بفعل الحرب، وأساها بفعل الشعور بالفقدان (وفاة زوجها، أمها، أخيها)، وفي الأسطورة تخفّ، وتصبح أكثر حرية:

في اليوم الأولِ بعد موته

طوت مراياها/ ووضعت غطاء حافظاً على بيت العنكبوت

بعدها حزمت السرير الذي خفقَ بجناحيه للطيران

في اليوم الثاني بعد موته/ عبّأت جيوبها بشظايا خشبٍ

وعلى كتفيْ بيتها رمت ملحاً/ وانطلقت يداً بيد مع شجرة.

خيطٌ من تأثير سريالي بالغ الحضور، وعلى درجة عالية من الغنائية، هذا الخيط الخيال السريالي لا يعتمد تراكمَ الصور البارعة، بل ترابطَ هذه الصور في ما بينها بخيط حكائي، مُستمد الروح من الموروث العربي والفرنسي معاً. يتابعه القارئ عبر روح الفقدان (حرب، موت، منفى...) والرغبة في الاسترداد التي تمنحها الحياة الجديدة. يتابعه بدهشة، لا تقل عن الدهشة التي تثيرها المخيلةُ في الصورة الواحدة:

أعطني علبةَ ثقابٍ أعيش داخلها/ تويْجَ زهرتين أغذي بهما النفسَ

ودع الجُندبَ يأخذُ بيد العالم/

نحن ننزلق/ ننزلقُ مع الكوكب/

ننحفُ شيئاً فشيئا لنغذي أرضاً جائعةً لأجسادنا

ما لأحدٍ ذراع تكفي يفتح بها البابَ لمسافري العالم السفلي

ما لأحد طاقةٌ تكفي لأن يتجددَ من ميتٍ إلى حي/ ما من أحد وجد الممر المُحرّم.

في قصيدة «كلمات» نقع على سيرة حياة «كلمات»، لكن داخل المخيلة الأسطورية. فيها يتوحد التاريخ والطبيعة في بعث الحروف الأولى، والكلمات الأولى، من حصى أول الأمر يتوزع على القارات الخمس، وما من غرابة في هذا التوحد: الفينيقيون من لبنان (تاريخ)، وسماء الليل الشرقي، الطيور، الذئاب، الحجارة... (الطبيعة):

كلمات/ تحليقٌ أعمى في العتمة/ يراعاتٌ تدور على نفسها

حصىً في جيوب ميتٍ كثيرِ النسيان/ قذائفٌ ضد جدار المقبرة

تحطمت وأصبحت أبجدياتٍ/ أكلت أرضأ مختلفةً في كل قارة.

...

من أين جاءت الكلمات/ من أي احتكاكٍ للأصوات ولدن

على أيّ صوّان أشعلن فتيلهن/ وأيُّ ريح جاءت بهنّ إلى أفواهنا

ماضيهُن صراعٌ بين صمتين كظيمين/ إيصاتٌ مدوٍّ للعناصر الذائبة

وآخرُ ناخرٌ للمياه الآسنة.

أحياناً يقبضن على بعضٍ صارخات/ يتوسعن في الندب

يصبحن ضباباً على نوافذ البيوت الهامدة/ يتبلورنَ في شظايا الحزن على الشفاه

يُلحقن أنفسهن بنجمٍ ساقط/ يلْفِظن الأرواح مع زفيرهنَّ

كلمات هن دموع من حجر/ مفاتيحُ الأبواب الأولى

في الكهوف يتذمّرنَ/ يُعرنَ للعواصف ضوضاءهن

وصمتَهنّ للخبزِ يُفرنُ حيّا...

ولعلها القصيدة التي قرأتها علينا في ستوكهولم. لأنها تعيد لي صدى النبرة الخطابية، الحكاية، التي لا تخلو من لهجة تراجيدية. عنوان المختارات يُنبئ بذلك: «أبجدية الرمل»Alphabets of Sand .

فينوس خوري غاتا لبنانية، أقامت في فرنسا منذ 1973، أي منذ بدء الحرب الأهلية وتمزق لبنان. كتبت 16 مجموعة شعرية، و20 رواية، وحازت جوائز عالمية عدة، وأسهمت في ترجمة مختارات من الشعر العربي إلى الإنكليزية، وهذه المختارات التي صدرت الآن بترجمة مارلين هاكر، ليست الأولى في الإنكليزية، فقد سبقتها للمترجمة ذاتها ثلاث مجموعات شعرية، ورواية واحدة صدرت في الولايات المتحدة.