في رواية أنتونيو تابوكي «بيريرا يدّعي»، يتعامل تابوكي بخفة مع الميتافيزيقا، التي لا تنتهي إلّا بالموت. يروي بيريرا أحداث عام 1938 على خلفية من تداعيات حكم سالازار، وهي مرحلة زمنية في غاية الخطورة بالتاريخ الأوربي الحديث. الفاشية في ايطاليا، النازية في ألمانيا، والحرب الأهلية الإسبانية. يرسم تابوكي مصير صحافي عنيد، شاهد على أكثر اللحظات تراجيدية في تاريخ الوعي الغربي.
يستعير تابوكي في «بيريرا يدّعي»، أُمثولة مواطنه بيراندلو عندما كتب عمله الشهير «ست شخصيات تبحث عن مؤلف»، كما يستعير أيضاً تقاطعات فرناندو بيسوا مع سياق أقرانه المفترضين.«زارني دوتور بيريرا لأول مرة في مساء أحد أيام شهر أيلول عام 1992، لم يكُن في ذلك الوقت يُدعى بيريرا بعد، لم تكُن ملامحه محددة جيداً، كان غامضاً، بعيداً، وغائماً، لكنه يريد أن يكون بطل كتاب، كان ببساطة، شخصية تبحث عن مؤلف. لا أعلم لماذا اختارتني هذه الشخصية أنا بالذات لكي تُكتب».إن الموضوعة الرئيسة، هي موضوعة صحافي يعمل في القسم الأدبي لصحيفة سياسية. رجل، محايد، امتثالي، لا يعنيه شيء مما يحدث في العالم، معرض لمرض القلب. رجل وحيد، ماتت زوجته ولا يملك سوى بعض الاستذكارات التي يعيش عليها: صورة زوجته الميتة المعلقة على الجدار وهي تبتسم، وهو لا يخطو خطوة إلا باستشارة ابتسامتها الصامتة. لا يهمه العالم مطلقاً، ما كان يهمّهُ في الأساس هو ميتافيزيقا الموت، أي الجانب اللاهوتي منه. وهو فوق ذلك يستشهد ببيسوا أكثر من مرة. إن تقنية الكتابة، تحاول دائماً، التحايل، على ما هو معروف ومختبر مسبقاً، لكن الموهبة هي في إظهار ذلك، في إظهار هذا الجديد الذي لا يمكن إلّا أن يدهشك حقاً. ولكي نتعرف على نحو أعمق، فهم تابوكي عبر شخصية بيريرا الامتثالية لا يمكن إلا العودة إلى شذرة من شذرات كثيرة كان قد خطها بيسوا، في «كتاب اللاطمأنينة» الذي ترجمه إلى العربية الشاعر المغربي المهدي أخريف.«لأنني أعرفُ كيف تمتلك الأشياءُ الأشدُّ صغرا فن تعذيبي بسهولة، لذلك أتفادى ملامسة أصغر الأشياء. من يتألم مثلي لمرور غيمة أمام الشمس، كيف لا يكون عليه أن يتألم لعتمة النهار المغطى على الدوام بغيمة حياته هو؟عزلتي ليست بحثاً عن سعادة لا أملك روحا لتحقيقها، ولا عن طمأنينة لا يمتلكها أحد إلا عندما لا يفقدها أبدا، وإنما عن حلم، عن انطفاء، عن تنازل صغير. الجدران الأربعة لغرفتي هي بالنسبة إلي، في آن واحد، زنزانة ومسافة، سرير وتابوت. ساعاتي الأكثر سعادة هي تلك التي لا أفكر فيها بشيء، ولا أرغب في شيء، ولا احلم بالرغبة في شيء، ضائعا في سبات نباتي/ ملتبس/ من طحلب محض ينمو في سطح الحياة. أستمتع بلا مرارة، بالوعي الباطل بكوني لا شيء، بالطعم المسبق للموت والاختناق». عبر الأحداث والمصائر التي سيمر فيها وعليها بيريرا، ستنكسر هذه الامتثالية القاتلة بعودة الوعي لنشهد الفصل النهائي عندما يقرر بيريرا أن يصبح لاجئاً سياسياً في فرنسا، متعاطفاً في ذات الآن مع الجمهوريين في أحداث الحرب الأهلية الإسبانية. تكمن مفارقة السرد الروائي في «بيريرا يدّعي» في الأحداث والتفصيلات الحياتية لعالم عاش فيه دوتور بيريرا بصدق -أو هكذا يجعلنا تابوكي نتخيل- لأن بيريرا دائماً ما يدّعي. هذه الأسلوبية المفارقة تفتح باب التساؤل عند القارئ، على مفهوم الإمكان، هل كان بيريرا يدّعي حقاً وهو شاهدٌ أمين على أحداث ومصائر حياته والآخرين؟ ألسنا أمام رواية تجعل من «الشك» تعلّة لسرد مصائر انسانية لم تحدث أبداً؟ هل أراد تابوكي أن نقرأ هذا العمل لنستنتج منه في النهاية، بأن شيئاً لم يحدث، وأن الأمر كله يتعلق ببراعة اسلوبية وكتابة بيضاء؟ أنصدق بيريرا الذي يدعّي أم تابوكي الكاتب الإيطالي والإنسان الأكثر انخراطاً في قضايا عصره والمناصر العنيد لمفهوم العدالة في العالم؟
توابل
الاسلوبية المفارقة
17-02-2010