الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي لا حدود خاتمة لمستويات إبداعه وتطويره لوسائل البطش، إذا تهيأت له الأسباب ومنحته الأقدار فسحة من العيش قبل أن يصرعه حيوان آخر من بني جنسه.

Ad

هذا المخلوق الضعيف الهش، الذي يمكن لبعوضة أن تطرحه أرضاً، ولكائنات مجهرية دقيقة لا ترى بالعين المجردة أن تذيقه ذلّ الانحطاط والهوان، يستطيع، إذا طغى واستبد واستأثر بوسائل القوة، أن يذهل العفاريت الزرق بما يملكه من قدرة على التفنن في صيغ التعذيب والقتل.

ونحن نعلم، بالطبع، أن الطغاة مبدعون في كل شيء، كما تقول وسائل الإعلام التي لا يستطيع تكذيبها أحد، لكن إبداع الطغاة الحقيقي الذي لا ينافسهم فيه أحد إنما يتجلى، بأغرب صوره وأعجبها، في ميدان عملهم الأصلي، أو ما يمكن أن يسمى «فن القتل».

إنهم في ذلك مثل المترف الملول الذي لا يهنأ بمائدته مهما اتسعت، ويدفعه السأم إلى بذل كل ما في طاقته لاصطناع أطباق جديدة يومياً.

فبعد أن يسرف الطاغية في القتل، يُداخله الملل من التكرار، إذ لا تعود المشنقة كافية لإشباع شهيته، ولا يفلح السيف بإرواء غليله، وتعجز الرصاصة عن هدهدة ضميره المنفصل باللذة المبتغاة، وفي سبيل مراوغة السأم والتحايل على المألوف، تهيج في داخله أشواق جهنمية لتغيير الأطباق، وعندئذ تتكشف مواهبه الكامنة عما يقول للخيال المجنح: «قم لأجلس في مكانك»!

في صباي قرأت كتاباً عن قيصر روسيا إيفان الرابع، الذي اشتهر -عن جدارة واستحقاق- باسم «إيفان الرهيب»، ففرغت، ببراءتي وقلة خبرتي بالحياة والناس، إلى تكذيب ما قرأته، لكنني، مع ذلك، شعرت بقلبي الغض ينسحق تحت وطأة صنائع ذلك الرجل المنقسم بالعدل إلى رجلين مختلفين: أحدهما يستثير العطف والشفقة، والآخر يبعث الرعب في قلب الحجر!

كان إيفان يمضي الليل راكعاً باكياً ملتمساً الصفح والمغفرة من ربه، لكن ما إن يطلع النهار حتى يستيقظ الفنان في أعماقه، مندفعا بكل عنفوانه إلى عالم الابتكار والتطوير.

مما أذكره من إبداعات هذا المستغفر الباكي أنه اخترع «الخازوق الدوّار»... وهو عبارة عن عجلة كبيرة يربط المحكوم فوقها مستلقياً على ظهره، ثم تدار ببطء، وخلال دورانها ينبع، من ثقب في مركزها، خازوق يخترق المحكوم من ظهره ويخرج من صدره

وذلك على ما أعلم، أول تنويع «أفقي» على إبداع العثمانيين «العمودي» المعروف!

ومن مآثره المشهودة اختراعه طريقة التعذيب بالماء، حيث يربط المحكوم، حليق الرأس، إلى عمود شاهق الارتفاع، تتساقط من أعلاه، بانتظام، قطرات ماء فوق جمجمة المربوط، وليس هذا الأمر هيناً، كما يبدو لأول وهلة، بل هو في الحقيقة من أفظع وسائل التعذيب، إذ لا ينقضي بعض الوقت حتى يصبح تكرار سقوط القطرات شبيها بطعنات سكين حادة، ما يدفع المحكوم إلى الصراخ من قرارة روحه، متوسلاً أن يقتلوه بسرعة.

وبمرور الأعوام، راحت ذكرى «إيفان» تبتعد وتبهت في ذهني، إذ تأتى لي أن أطلع على صور هائلة لإبداعات «الموهوبين» الآخرين من ذوي الجور والطغيان، فكان من شأنها أن تحجز لايفان مقعدا في عربة «اللطافة».

أعرف أن التعذيب والقتل أصبحا في عصرنا صناعة لها أصحابها الذين يثيرون حسد الشيطان، ولها زبائنها الذين يزيدون على عدد زبائن مصانع الأغذية... لكنني لا أتكلم هنا عن هذه الصناعة، بل عن المواهب الفردية المحددة بخيال الطاغية وحده، وبجهده الشخصي لا غير.

في أوائل تسعينات القرن الماضي، وقعت على كتاب يقع في سبعة مجلدات، للمحقق المعروف «عبود الشالجي» رحمه الله، وكان في عنوان الكتاب، وهو «موسوعة العذاب» ما يكفي لتحذيري من مغبة الاسترسال في القراءة، لكنني قلت في قرارة نفسي: «يا ستة مع الستين»... وتبين لي، في ما بعد، أنها ليست ستة بل ستة آلاف وأكثر، ما جعلني مستحقاً، نظير عنادي، أن أخرج من قراءتي مصاباً بمرض الكآبة، وموقنا بألا سبيل لنجاة بني الإنسان من بطش بني الإنسان إلا بقيام الساعة!

رأيت، خلال آلاف الصفحات، آلاف الأخبار التي تبدأ بالشتيمة، وتنتهي إلى ألوان من العذاب لا يمكن للعقل السوي أن يتخيلها إطلاقاً.

والمشكلة أن تلك الأخبار لا تتحدث عن «إيفانات رهيبين» في بلاد بعيدة، بل عن عرب ومسلمين في بلادنا، وفي فترات من تاريخنا لا يتركها الرواة تمر من دون أن يلحقوا بها وصف «الزاهرة»!

سأكتفي بخبر واحد من هذه الموسوعة، أورده القاضي التنوخي في «نشوار المحاضرة» عن طريقة قتل فيها الخليفة «المعتضد» رجلا بسد جميع منافذه!

قال: «إن المعتضد أمر برجل فسُدّ بالقطن أنفه، سداً شديداً، وفمه وعيناه وأذناه وذكره وسوءته، ثم كُتّف وترك، فلم يزل ينتفخ ويزيد إلى أن طار قحف رأسه، ومات»!

وقد ذكر المسعودي أيضاً في «مروج الذهب» قصة هذا الرجل، وأضاف أنه كان لصاً سرق من بيت المال عشر بدر «والبدرة هي كيس الدراهم»... لكنه لم يقل لنا إن عقاب اللص بهذه الطريقة هو «بدعة» لا سند لها في قرآن أو سنة، كذلك لم يخبرنا عن الكيفية التي كان أمير المؤمنين «المبدع» ينفق بها مخزون بيت المال.

وأحسب أنه لم يقل كل ذلك لأنه يعرف اننا نعرف، ويدرك مثلما ندرك أن سد الفم عن مثل هذا الكلام أهون ألف مرة من سد جميع المنافذ!

على أن عصرنا الذي أصبح فيه للعذاب صناعة مستقرة قائمة بذاتها، لم يخل ممن ينزعون إلى بذل أقصى طاقتهم للتفرّد في «الإبداع».

ومن نماذج هؤلاء «أبيس غارسيا» رئيس مخابرات طاغية الدومنيكان «رافائيل تروخيبو» فبعد مقتل الطاغية وتولي ابنه «رامفيس» السلطة برتبة جنرال «هكذا... مثلما يحصل عندنا» قُبض على جميع المشاركين في مؤامرة الاغتيال، وكان من ضمنهم «ميغيل أنخل بايث» أحد الوجهاء الكبار من صفوة المقربين من تروخيبو الروائي البيروفي «ماريو بارغاس يوسا» الذي يصف نفسه بأنه متخصص في الدكتاتوريات. ينقل في روايته «حفلة التيس» جانبا من حفلة تعذيب هذا الرجل، كما رواها رفيقه في الزنزانة «موديستو دياث» «لقد عذبه أبيس غارسيا ورامفيس بشراسة، لأنه كان مقربا من تروخيبو، فكانا يحضران جلسات تعذيبه بالكهرباء، والجلد، والحرق، التي يعرضانه لها، ويأمران أطباء جهاز الاستخبارات العسكرية بانعاشه لمواصلة التعذيب، وبعد مرور اسبوعين أو ثلاثة، وبدلا من طبق دقيق الذرة المعفن المعهود أحضروا لهما إلى الزنزانة قدرا فيها قطع لحم، فاختنق ميغيل آنخل بايت وموديستو دياث، وهما يأكلان بأيديهما حتى شبعا، فعاد السجان للدخول بعد قليل، وواجه «بايث» مباشرة قائلاً له إن الجنرال يريد ان يعرف إذا كان لا يشعر بالقرف من أكل لحم ابنه، فشتمه «بايث» وهو جالس على الأرض: «قل للقذر ابن العاهرة هذا أن يبلع لسانه المسموم لعله يتسمم» فانفجر السجان بالضحك ثم غادر، ورجع ليعرض عليه من الباب رأسا فتيا يحمله من شعره «هو رأس ابنه المقطوع» وقد مات ميغيل انخل بايث بعد ساعات من ذلك، بين ذراعي موديستو، بسكتة قلبية!»

منذ بضعة أعوام، حين جاء «بارغاس يوسا» إلى لندن، وقرأ فصلين من هذه الرواية في إحدى الامسيات، أكد أن هذه الواقعة جرت فعلا وأنها ليست خيالا روائيا، ثم أنه لم ينس أن يعبر عن سعادته لخسارته في انتخابات الرئاسة التي كان رشح نفسه لها في «بيرو» وقال بكل صراخة: «كنت سأتحول إلى دكتاتور» وقال إن المرء لا يولد دكتاتوراً، لكن عوامل عدة تحوله إلى هذه الهيئة، وعلى رأس هذه العوامل وأكثرها أهمية: خنوع الناس!

وأشار إلى أن «تروخييو» نفسه كان في بدء صعوده شخصاً عادياً، بل لعله كان شخصاً لطيفاً، ولم يكن في مظاهر شخصيته ما يدل على أنه سيكون ذلك الدكتاتور المرعب.