الغزو التركي

نشر في 14-06-2010
آخر تحديث 14-06-2010 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري نحن اليوم في الزمن التركي، والعالم العربي كله يمر بمرحلة الدور التركي أو بالأدق "الغزو التركي" الذي يحظى بشعبية جارفة في الشارع العربي عقب الهجوم الإسرائيلي على نشطاء "الحرية"، فالجماهير العربية حملت الأعلام التركية وصور أردوغان وهتفت "يا الله يا رحمن احفظ لنا أردوغان" وسمت عائلات فلسطينية مواليدها باسمه, وأصبح الدور التركي يشكل الملمح الأبرز في المشهد العربي العام وتعاظم الحضور التركي سياسياً وإعلامياً واقتصادياً وبات موضع تقدير العرب- شعوباً وحكومات- بخلاف الدور الإيراني المقلق للدول العربية, الدور التركي مرحب به، إذ لا أطماع له، وأما الدور الإيراني فأهدافه واضحة في دعم الحركات الانفصالية ضد أنظمتها الشرعية تحت شعار المقاومة, الدور التركي لم يسجل عليه تدخل في الشؤون العربية، أما الدور الإيراني فغارق فيها ومثير للانقسامات الطائفية والإيديولوجية بين أبناء المجتمع الواحد.

 وقد أفسد المال الإيراني حركات المقاومة، وهو المعوق حتى اليوم للمصالحة الفلسطينية لأنه يرهن تحقيق المصالحة بحل مشاكله مع الغرب أولاً، لذلك يرحب العرب بتركيا عضواً في رابطة الجوار العربي التي اقترحها عمرو موسى في قمة سرت لكنهم يتوجسون من إيران, وهناك حالة من الإعجاب والانبهار بين الشعب العربي بتركيا- نمودجاً ودوراً- وعائلات عربية عديدة بدأت شد الرحال لقضاء الإجازة في ربوع تركيا، وفي الشارع الإسلامي من لايزال يحلم باستعادة أمجاد الخلافة العثمانية التي كانت حاكمة للعالم الإسلامي.

 كيف استطاعت تركيا أن تكسب قلوب العرب؟ وكيف تمكنت من غزو العالم العربي؟! استطاعت تركيا أن تغزو الساحة غزوا لطيفاً عبر الفن أولاً، وبدأ هذا الغزو الجميل عبر المسلسلات التركية المدبلجة باللهجة السورية التي كانت جواز المرور للعالم العربي، إذ حققت لها الشهرة والانتشار، وسورية هي بوابة تركيا إلى العرب كما قال الرئيس التركي عبدالله غول, حملت هذه المسلسلات الدرامية صورة جميلة لتركيا إلى نفوس العرب التي كانت متعلقة بها, ومعظم العائلات العربية أدمنت هذه المسلسلات و(مهند) لم يصبح نجماً معروفاً إلا بفضل العرب, ولأهمية الفن التركي قال أردوغان: نحن ندعم هذه المسلسلات في العالم العربي لأنها تملك صدى جميلاً وتساعد على التقريب بيننا, وحرص شخصياً على افتتاح (التركية) الناطقة بالعربية وسط احتفاء عربي كبير لم تحظ به القنوات الأخرى الناطقة بالعربية، وكما تقول ديانا مقلد "كانت الحكومة التركية تتوق لإطلاق هذه القناة خصوصاً في هذه المرحلة التي يتطلع العرب فيها بانبهار فني وسياسي واقتصادي نحو تركيا".  لكن هذا الغزو الفني المبهر،كان مقدمة للغزو السياسي والاقتصادي الأشمل والذي تجلى في تصدي تركيا لأهم وأبرز ملفين يشغلان العرب ويؤرقانهم: الملف النووي الإيراني والملف الفلسطيني, لقد ظهر الذكاء التركي في معالجة هذين الملفين عبر مبادرة مزدوجة لاحتواء الملف الإيراني ومواجهةالتعنت الإسرائيلي, ففي الملف الأول استطاع أردوغان- الإسلامي الهوى والتوجه- أن ينجح فيما لم تنجح فيه مجموعة (5+1) في مفاوضاتها المضنية مع  إيران, إذ قام بزيارة مفاجئة لطهران في اللحظة الأخيرة، وتمكن من انتزاع أول قبول إيراني بتخصيب اليورانيوم بالخارج, صحيح أن مجلس الأمن أقر الجولة الرابعة من العقوبات على إيران إلا أن هذا لا يعد إنتقاصا من الدور التركي بمقدار عدم قناعة المجتمع الدولي بجدية إيران، وبسبب كثرة مراوغاتها وألاعيبها، ولأن إيران أعلنت بعد الاتفاق مواصلتها تخصيب اليورانيوم المتبقى لديها، إلا أن مجلس الأمن وتقديراً للدور التركي لم يغلق الباب أمام العمل الدبلوماسي, ومع أن تركيا صوتت ضد القرار إلا أنها ستلتزم به.  وفيما يتعلق بالملف الثاني كان التحرك التركي منصباً على (ملف غزة)- سياسياً انحسرت القضية الفلسطينية إلى قضية حصار غزة- وذلك لتحقيق هدفين: كسر الحصار الظالم على غزة وتحقيق المصالحة الفلسطينية, ونجحت الخطة التركية في تحريك الوضع بعد حماقة إسرائيل الكبرى بعدوانها على القافلة, فأصبحت في عزلة دولية وتصاعدت المطالب الدولية برفع الحصار وإجراء تحقيق دولي وصرح الراعي الأميركي بأن الحصار لم يعد مبرراً، حققت الخطة التركية أكثر من أهدافها، إذ كشفت طبيعة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة للعالم وحركت منظمات مدنية وجهات عربية ودولية لإرسال المزيد من القوافل وأصبح معبر رفح مفتوحاً وهناك تحرك دولي لأجل تخفيف الحصار عبر الوسيط البريطاني, أما الهدف الثاني وهو تحقيق المصالحة فيبدو أنه الأصعب، لأن مفتاح المصالحة بيد حماس, وحماس مازالت تناور وتراوغ وزادتها الأحداث الأخيره تصلباً، إذ رأت فيها انتصاراً لها, فهل تستطيع تركيا بما لها من علاقات قوية بحماس أن تقنعها بالمصالحة؟! لا أتصور ذلك لثلاثة أسباب:

 ١- حماس لن تفرط بالسلطة بعد أن استولت عليها بانقلابها الدموي, يونيو ٢٠٠٦ وهي اليوم الحاكمة المهيمنة على غزة ولن تتنازل لتكون شريكة في السلطة.

 ٢- ضغوط الحليف الإيراني على "حماس" خصوصاً بعد العقوبات الجديدة على إيران.

 ٣- انعدام أجواء الثقة بين "حماس" والسلطة.

 دعونا نطرح تساؤلين: ما دوافع التحول التركي وما طبيعته وأهدافه؟ وكيف نتجاوب ونتفاعل معه؟ بالنسبة للتساؤل الأول، فإن المحللين يرجعون التحول التركي إلى مهندس العلاقات الخارجية التركية ومنظرها- أحمد داود أوغلو- صاحب نظرية (العمق الاستراتيجي) الذي رسم المجال الحيوي لتركيا بالمحيطين العربي والإسلامي، وقد تبنى (حزب العدالة والتنمية) مند وصوله إلى السلطة ٢٠٠٢ هذه النظرية وجعلها دستوراً للسياسة الخارجية, تركيا تريد أن تساهم بدور إيجابي متميز في المنطقة يختلف عن الدورين الإيراني والإسرائيلي, دور يقوم على تحقيق بيئة إقليمية آمنة ومستقرة، لذلك فإن الدور التركي يختلف عن الإيراني في أن الأول يدخل المنطقة من البوابة الشرعية عبر الأنظمة العربية، بينما يتسلل الثاني من خلفها ومن وراء ظهرها, وهدف الدور التركي تحقيق الأمن والاستقرار للجميع بحسب نظرية أوغلو في "تصفير النزاعات العالقة" انطلاقاً من أن البيئة المستقرة تخدم المشروع الإصلاحي لحزب العدالة والتنمية وتجنب تركيا الصراعات الداخلية, وإيماناً بأن أي مشروع تنموي كما يحتاج إلى بيئة داخلية مستقرة فإنه يحتاج إلى بيئة إقليمية مستقرة أيضاً, فنظرية "العمق الاستراتيجي" تتطلب من تركيا أن تكون لاعباً إقليمياً في مجالها الحيوي أولاً تمهيداً لأن تكون لاعباً دولياً مقبولا في المجتمع الدولي.

 تركيا ترى نفسها مؤهلة لهذا الدور كونها جسراً يربط  الحضارات والأديان والقوميات والمصالح الاقتصادية بين الشرق والغرب, والدبلوماسية والمصالح المشتركة هما عمادا هذا الدور, ولا شك أن نجاح الدور الإقليمي لتركيا في تحقيق إنجازات بالنسبة للملفين الإيراني والفلسطيني هو الذي يؤهل تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي التي تشكل الهدف الاستراتيجي البعيد لها، وهو ما يسميه البعض بتقديم سندات استحقاقها الثقافي والسياسي للعضوية الأوروبية.

فالغزو التركي للمنطقة العربية يصب في مصلحتنا لأنه الأقرب إلى مشاعرنا وأهدافنا ويحقق رغباتنا ويساندنا, لذلك علينا أن نتجاوب ونتفاعل معه، وهذا ينقلنا إلى الإجابة عن التساؤل الثاني المتعلق بدورنا.

 لقد طالبت في مقالة سابقة باستثمار فرصة التوتر التركي- الإسرائيلي لكسب تركيا وتعميق عودتها إلى محيطها الطبيعي ورأيت فيه حدثاً مفصلياً يجب اغتنامه, فتركيا أول دولة إسلامية اعترفت بالكيان الصهيوني ١٩٤٩ وكان ذلك اختراقاً اسرائيلياً تاريخياً مؤلماً للمسلمين بعد إلغاء الخلافة العثمانية ١٩٢٤, وكون تركيا اليوم تواجه إسرائيل معنا فهذا يتطلب دعمها عبر إجراءات عملية، وكنت قد طالبت بإلغاء التأشيرات وزيادة الاستثمارات وتشجيع السياحة، ونقلت الأنباء يوم الجمعة أن المنتدى العربي التركي باسطنبول أعلن عن إنشاء مجلس أعلى للتعاون, يضم تركيا وسورية ولبنان والأردن ويتضمن تحرير التجارة وإلغاء التأشيرات، ودعا المجلس بقية الدول العربية للانضمام إليه, وليتنا نستجيب لهذه الدعوة.  ويبقى في النهاية أن نقول: مرحباً بعودة تركيا إلى محيطها العربي والإسلامي، وأهلا بدورها البناء في تحقيق الاستقرار والتحديث والإصلاح لدول المنطقة Hoşgeldiniz Türkiye.

 *كاتب قطري

back to top