المؤلف لا يموت


نشر في 24-05-2010
آخر تحديث 24-05-2010 | 00:00
 فوزية شويش السالم وصفت لي ابنتي هدوء الفندق الذي سكنت فيه، بجملة في غاية الإيجاز والبلاغة، رغم أنها الوحيدة التي من بين أولادي لا تملك الموهبة الفنية، ومع هذا جاء تصويرها لهدوء الفندق في جملة عبقرية أوصلت إليَّ جوهر الصمت والسكون حين قالت: ليست الإبرة وحدها ترن، حتى نسمة الهوا ترن.

هذا هو جوهر المعنى للشعر، وهو رؤيتنا للدنيا ولكل ما فيها، ولكل ما يحيط بنا، وكيفية إحساسنا به، هو ما نطلق عليه الشعر، وهو جوهر الشعرية كلها، هو كيفية أن نعيشه، وأن نتنفسه، وأن ندرك الدنيا ونراها من بؤبؤ عين الشعر، وليس أن نؤدي دور الشاعر وكأننا نقوم بأداء وظيفة أو مهنة تنتهي بانتهاء الدوام، أو بقرع جرس الفرصة.

وهناك فئة تولد بهذه الموهبة، تأتي مختومة بها، تجيء إلى الدنيا هكذا برؤية وإحساس الشاعر، حتى إن لم تمارس كتابة الشعر أو قوله، هي فقط تملك الإحساس بشعرية الوجود، الذي هو برأيي أهم بكثير من ممارسة قول أو كتابة الشعر الموظف بوقت أو بفعل أو بشرط أو بانفعال ما، والذي ينتهي بانتفاء شرطه ومصلحته، وليعود صاحبه إلى كينونته ودوره العادي في الحياة ليتعارك أو ليمارس كذبه أو خداعه ونذالته، أو أي شيء ما دون ذلك.

أقول هذا الكلام من بعد ما قرأت رواية «التلميذ والدرس» ورواية «سأهديك غزالة» للكاتب الفرنسي من أصل جزائري مالك حداد، الذي لا يعرف الكتابة في اللغة العربية، وما قرأته كان مترجما من اللغة الفرنسية.

مالك حداد من هؤلاء الفنانين العظماء، الذين ولدوا بهذه الروح الشاعرية التي لا تكتب الشعر كارتزاق وكوظيفة، لكنها تتنفسه وتعيشه في كل لحظة من لحظاتها المعاشة، فكل ما حوله لا يُرى إلا من منظار الشعر، يحيا به، وينبض بوجدانه في كل معنى وفي كل تفسير.

لذا هو لا يحزق ولا يتكلف، ولا يتكبد أي مجهود في كتابة روايته الشعرية، ولا يفتعلها، ولا يغتصبها، فقط يكتب بعفوية صادقة، نادرة، منهمرة ومتطابقة مع روحه ووجدانه وطبيعته، فلا تدري متى يأتي السرد، ومتى يحل الشعر، ومتى يضبط الإيقاع، ومتى يدخل المخرج لأن المشاهد أصبحت في حاجة إلى حزمه وربطه وحسن إخراجه.

وفجأة يغيب المخرج لينط المؤلف بحضوره الوافر في الرواية، ثم يختفي، ويحضر أبطاله، أحيانا يأتون من الصحراء، وأحيانا من باريس، أو يتلاشون حين يعود المخرج أو المؤلف، أو حين تتحول الصفحة إلى مسرح يمارس عليه الجميع لعب أبطال المسرحية.

هذه الروايات المكتوبة من قبل 50 سنة بحداثة كأنها مكتوبة اليوم، كتبها رجل مات وبقيت نصوصه تشع في الحياة وبالشعر وبالفن الخالد العظيم.

مالك حداد... لا تُعرف معه حدود فقد انقضت معه، وما رواياته إلا جوهر لفن عظيم، تنداح فيه كل الفنون بسهولة وبعفوية وببساطة، كأنها ماء الحياة، يتسلل بسلاسة في شرايين العطش ليحييها بعفوية من لا يدرك عطاءه، ومن لا يُعرف منة لفنه. 

back to top