حظر المآذن: الفعل ورد الفعل
كانت نتائج استطلاعات الرأي العام تشير بوضوح إلى أن أغلبية الشعب السويسري سترفض مبادرة حظر المآذن المطروحة للاستفتاء الشعبي، كونها تمييزاً ضد الحرية الدينية للمسلمين وانتهاكاً للدستور السويسري، ترجع بدايات القضية إلى 17 يونيو 2007 حين دعا تيار يميني متشدد إلى تعديل الدستور بإضافة نص يحظر بناء المآذن، وهو تيار هامشي في حزب هامشي هو حزب الشعب المسيحي.قوبلت هذه الدعوة بمعارضة شديدة من قبل كل الفعاليات المجتمعية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والحكومة الفدرالية ومجلسي النواب والشيوخ وجميع الهيئات والمجالس الدينية المسيحية واليهودية إضافة إلى المجتمع الحقوقي الغربي الذي انتقد تلك الدعوة، ولأن سويسرا مكونة من 26 كانتوناً (مقاطعة) تؤلف الاتحاد السويسري وتأخذ بنظام الديمقراطية المباشرة التي تتيح للشعب أن يتدخل في القرار التشريعي، وفي تعديل الدستور عبر الاستفتاء الشعبي، ويرهن ذلك بجمع 100 ألف توقيع لطرح أي مبادرة للاستفتاء، فقد عمد التيار المتشدد إلى جمع 113 ألف توقيع لطرح مبادرة حظر المآذن بحجة أنها تمثل تهديداً بأسلمة البلاد ورمزاً لهيمنة الشريعة وليست مطلباً للتعبد، حيث يمكن أن تؤدَّى الشعائر من غير المآذن.
وتم طرح المبادرة في استفتاء عام في 29/11/2009 وسط توقعات الحكومة والأحزاب السياسية برفض المبادرة، خصوصا أن آخر استطلاع كشف عن رفض 53% من المستجوبين للمبادرة في مقابل 37% مؤيدين لها، ويبدو أن الحكومة والفعاليات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية بما فيها المراكز الإسلامية قد استكانت لهذه النتيجة واطمأنت لها، فلم تعمد إلى تعبئة المجتمع، ولم تقم بجهد إعلامي نشط في الوقت الذي انتهز فيه التيار المتشدد الفرصة وأخذ ينشط ويملأ الساحة بدعاياتة المضللة مستغلاً خوف المواطنين من الإرهاب ومستورداً مشاكل الدول الإسلامية لزرع مشاعر الخوف في نفوس المواطنين، وبلغ خبثهم أنهم أحيوا مقولة قديمة للرئيس التركي أردوغان «المساجد ثكناتنا والقباب خوذاتنا والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا» ووزعوا ملصقات تصور المآذن صواريخ موجهة بجانب مسلمة منقبة بالسواد، وعلى أرضية العلم السويسري. وجاءت نتائج الاستفتاء مخيبة للآمال وصادمة للجميع، إذ أيد 57% حظر المآذن مما فجر غضباً إسلامياً وعالمياً وتوالت الإدانات وردود الأفعال الرافضة من مختلف الدول والمنظمات ووجه الاتحاد الأوروبي انتقادات شديدة لها، وتضامن الفاتيكان مع الأساقفة السويسريين الذين عبروا عن استيائهم، وقالوا: إن حظر المآذن ضربة قاسية لحرية المعتقد ولحمة المجتمع السويسري. وقالت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة: إنه عمل يقوم على التمييز البغيض، وقالت منظمة المؤتمر الإسلامي في جدة: إن الحظر يعد نموذجاً جديداً يجسد العداء المتنامي ضد الإسلام والمسلمين في الغرب، وفي الدوحة رفض مركز الدوحة الدولي لحرية الأديان قرار الحظر داعياً المؤسسات الغربية للتدخل الفوري لاحترام مبادئ حرية الأديان وحرية ممارسة المعتقد الديني للأقليات المسلمة في الغرب. التساؤلات المطروحة الآن: ما دلالات هذه النتائج؟ وهل نستطيع أن نقرأ في ضوء هذه النتائج ما يساير بعض الطروح السائدة حول عنصرية الشعب السويسري وكراهيته للإسلام والمسلمين؟ الشعب السويسري ليس شعباً عنصرياً وليس شعباً معادياً أو كارها للإسلام والمسلمين، بل هو أكثر شعوب أوروبا تسامحاً وقبولاً للتعددية الدينية والثقافية مع مختلف الأديان والجنسيات، وسويسرا بلد يفخر بحياده الديني والسياسي والاجتماعي. والمجتمع السويسري خليط من ثلاثة شعوب تتحدث الألمانية والفرنسية والإيطالية وتتعايش في سلام وتعاون، كما أن المسلمين هناك يتمتعون بكل حقوقهم المدنية وحرياتهم الدينية، وقد تضاعفت أعدادهم خلال ثلاثين سنة من ثلاثين ألفاً إلى 350 ألفاً من أصل 7.5 ملايين مواطن وأصبحوا يشكلون نحو 4.5% من السكان، ولا يعاني المسلمون أي تضييق أو تمييز ضدهم، والإسلام ثاني ديانة في البلاد بعد المسيحية. وفي جنيف تنتصب مئذنة جنيف (23 متراً) التي بنيت 1978 عالية شامخة بالقرب من مقار الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ويكفي أن نعلم أن السويسريين أنفسهم غاضبون من هذه النتيجة، وقد بادر 200 شاب سويسري إلى افتراش ساحة بمدينة زيورخ وصنعوا 13 جامعا من الورق المقوى تعبيراً عن تضامنهم مع المسلمين، وعندما كتب أحد الشباب في موقعه: إنني أشعر بالخجل من هذه النتيجة، تضامن معه 60 ألفاً في الموقع، لذلك علينا عدم التسرع والمجازفة باتهامهم بالعنصرية والعداء، وعلينا الحذر من الوقوع في مزالق التعميم في الحكم على الشعوب، ونتائج الاستفتاءات ليست معياراً سليماً للحكم، إذ إن (لحظة التصويت) لحظة عابرة تحكمها الحالة النفسية للمصوت ولا تمثل موقفاً عاماً. وقد استطاع اليمين المتطرف التلاعب بنفسية المواطن وتخويفه من الإسلام، وذلك في ظل غياب أي دور إعلامي نشط للمسلمين، وقد أعجبني إمام مسجد جنيف في دعوته للمسلمين بالهدوء، وفي حضهم على احترام رأي السويسريين وتوضيحه أن المسليمن في سويسرا مستهدفون من حزب معاد للإسلام، وليس من السويسريين ولا حكومتهم. ومن ناحية أخرى علينا فرز المواقف العنصرية، فهي ليست سواء، فالرسوم المسيئة غير منع الحجاب، وغير منع المآذن، وإذا كان 57% ضد المآذن فإن 43% معها، وأقلية اليوم يمكن أن تنقلب إلى أغلبية الغد بشيء من المعالجة الحكيمة وحسن التصرف، وحتى الـ57% الرافضون ليسوا ضد بناء المساجد وليسوا ضد المعتقد الديني الإسلامي، وإذا كنا نستنكر هذه النتيجة فإن السويسريين هم الذين سيلجؤون إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان كون المبادرة تناقض الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. المسلمون اليوم قد استوعبوا دروس الإساءات السابقة، ووأصبحوا أكثر وعياً وتحكما بردود أفعالهم، يقول د. هشام مايزر: علينا أن نحلل نتائج الاستفتاءات، وما تحمله من دلالات وهذه فرصة لاستكمال الحوار مع السويسريين، وتعريفهم بالإسلام الحقيقي، ويؤكد مدير مؤسسة التعارف: علينا أن نكون فاعلين ونعمل على طمأنة هؤلاء، وأن نفتح أبوابنا لهم ونوضح الصورة الحقيقية للإسلام، ولابد أن نغير الأسلوب الذي كان متبعاً من قبل، ونكون أكثر انفتاحا ونختار أناساً يمثلوننا بشكل جيد حتى لا يستغل اليمين المتشدد الفرص. ويعترف رئيس رابطة مسلمي سويسرا بأن الجميع فوجئ بهذه النتيجة ويقول: لابد أن نفكر بالآليات التي استخدمت خلال الحملة، ويفسر ما حصل بقوله: هناك عمليات تهويل وتخويف وخلط كثير من الملفات بهدف تخويف المجتمع السويسري من الإسلام، فأصبح من الصعب على المواطن السويسري أن يميز بين منع المئذنة وأشياء أخرى، لذلك علينا تحمل مسؤولياتنا وتوضيح الصورة الحقيقية للإسلام. أعتقد أن هذا هو المنهج الأسلم إذا أردنا قلب الميزان لمصلحتنا، وأما الدعوة إلى مقاطعة سويسرا سياسياً وسياحياً أو سحب الأرصدة المالية من بنوكها أو المطالبة بنقل مقار الأمم المتحدة من سويسرا، فقد يكون ضررها أكبر من نفعها، بل قد يستغل اليمين المتطرف هذه التصريحات لتكريس مشاعر التخويف ضد الإسلام والمسلمين، وعلينا أن نساعد المسلمين هناك عبر أساليب حكيمة بدلاً من الدعوات الانفعالية التي قد تنعكس سلبا عليهم، والمطلوب اليوم تعزيز آليات الحوار وتقويتها لا المطالبة بقطعها بحجة أن المسلمين لم يستفيدوا منها شيئاً. *كاتب قطري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة