حركة تصحيحية تحجّم الحرس القديم وتكرّس دور المرشد
لقد وقع زلزالان فكريان سياسيان خطيران خلال الأيام الأخيرة في إيران لم يعرهما الإعلام العربي الاهتمام اللازم لأسباب ماهوية متفاوتة: الأول هو ذاك الذي حصل يوم الثلاثاء الفائت أمام محكمة الثورة في إيران، عندما أعلن منظّر معسكر الإصلاحيين جميعا، والزعيم الأبرز لحزب جبهة المشاركة في مرافعته التاريخية المكتوبة بخط يده، والتي كان يتابع سطورها بدقة، حين كان يقرؤها أحد أعضاء اللجنة المركزية لحزبه بسبب عدم قدرته على الكلام، وما يلي مضموناً: «بأنه وحزبه إنما وقعا في محظور وقائع الاضطرابات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأخيرة بسب الانحراف الخطير في الفكر الديني والوطني، والميل نحو أفكار غربية لا تنطبق على واقع إيران– فلسفة كارل بوبر وغيرها...- ما أدى إلى ارتكاب أخطاء قاتلة أطلب بسببها الغفران من الشعب الإيراني، وعليه أقدم استقالتي من هذا الحزب الذي لم يعد مكاني الطبيعي فيه...».
الثاني، هو ما أعلنه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي أمام جمع من الطلبة الممتازين مساء الأربعاء الماضي بقوله ما مضمونه: «... ما وقع من تحرك تخريبي مدمر بعد الانتخابات العظيمة لم يكن عفويا بالمطلق، بل كان أمرا مدبرا قد أعد له بعناية للانتقام من الموقع المتميز والمتعاظم النفوذ للجمهورية الإسلامية الإيرانية وسط الموقع الاستراتيجي للأمة الإسلامية... نعم أنا لا أتهم أحدا من طلائع المحتجين الداخليين بأنهم عملاء للأجنبي كأميركا وإنكلترا لأنه لم يثبت لي ذلك، لكن ما تتابع بعدها سواء كان ذلك بوعي أو دون وعي إنما جعل جماعة الأجنبي يطمعون في نجاح مخططهم، وتتوقد الآمال في تقدمه من خلال تشديد حركة ماكينته الانتقامية... والأمر بحد ذاته لم يكن مفاجئا لنا، لكن المفاجأة كانت في انزلاق وجوه أو رموز لم نكن نتوقع لها ذلك... وذلك ظلم كبير يتحمل أصحابه وزره لا يضاهيه أي مظلمة أو تجاوزات من تلك التي أعقبت الانتخابات...». نتيجة الزلزال الأول باتت شبه معروفة يتحدث عنها الموالون للنظام كما المعارضون له، ألا وهي إطلاق رصاصة الرحمة على معسكر ما صار يطلق عليه بالإصلاحيين. لكن حصيلة الزلزال الثاني وإن كانت ارتداداته لم تنته بعد إلا أن الأكيد منها بأن ثمة «حركة تصحيحية» في طريقها للحصول في إيران لا أحد يعرف مداها بعد، حتى الآن القدر المتيقن منها هو تحجيم رموز تاريخية من الحرس القديم كانت متعملقة حتى الأمس القريب اهتزت مكانتها قويا بعد كل الذي حدث. لعل المتابعين لما عرف بانتفاضة الطلبة في عام 1999 يتذكرون جيدا كيف قام رموز المتدثرين بعباءة الرئيس محمد خاتمي المعتدل يومها بتمزيق شخصية سلفه الرئيس هاشمي رفسنجاني إربا إربا بعد اغتياله معنويا، عبر اتهامه بالوقوف وراء اغتيالات المثقفين المنشقين، وهو ما لم ينتبه إلى خطورته الرئيس المتجلي يومها إلا في نهاية ولايته الثانية عندما اضطر للإشادة بسلفه واصفا إياه بـ«هوية الثورة». لكن الأمر كان قد فات، لأنه لم يمض وقت طويل، وإذا به يرى نفسه أمام جمع هائج من المنتقدين أنفسهم، ومن جامعة طهران نفسها، وهم يوجهون له أقذع التهم ما اضطره لإطلاق قولته الشهيرة: «أتراني أسمع صوت عدو البلاد والنظام من بين صفوف معسكر الإصلاحيين». ثمة من يقول اليوم وبكل ثقة واطمئنان إن السكوت الانتهازي لقادة الأحزاب الإصلاحية آنذاك على انتهاك حرمات الكبار أولا بأول كان بمنزلة الخميرة التي أوصلت «الإصلاحيين» اليوم إلى مراجعات السجون الأخيرة ومن ثم إلى «عشائهم الأخير». ليس ثمة دلالة مهمة لما يقوله اليوم من تبقى من «قادة الإصلاحيين» خارج السجون سواء بالتصريحات أو عبر البيانات التي تكذب هذا «الرفيق» أو ذاك ممن هم داخل السجون ولا مدى صحة اتهامهم للسلطات من عدمها، بما يسمونه بـ«التعذيب الأبيض» أو الضغط المعنوي على رفاقهم المعتقلين، ذلك أن ما يقوله هؤلاء في المعتقل اليوم- بعيدا عن تفاصيل بعض صغارهم- إنما هو مراجعات فكرية وسياسية خطيرة تفيد بانهيار نهج ابتُنِي بالأساس على منهج وسياسة التحضير التدريجي للخروج من منظومة الحكم الإسلامي القائم على ولاية الفقيه، وهو ما عثر عليه مدونا وبالتفاصيل الدقيقة في أوراق أبرز الأحزاب الإصلاحية، وهو ما يتقاطع أيضا مع أحد أهم أهداف الثورة المخملية التي ينكرون، وهنا بيت القصيد، ما خفي من عبارات دبلوماسية في الخطاب «الزلزال الثاني» للمرشد الأعلى. الغرب والمجتمع الدولي المخطوف من جانب المحور الأميركي الإسرائيلي أحمق والحمد لله، ولايزال يجهل إيران على حقيقتها والحمد لله أيضا، لكن ما يوجع القلب ويذكرنا ببيت الشعر العربي الشهير: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند هو اللاموقف العربي إن أحسنا الظن، وانخراط البعض منهم أو انزلاقه في وهم أن إيران ونظامها في طريقهما إلى السقوط. وهو ما عملت ولاتزال تعمل عليه وبكل حماس بعض الفضائيات ووسائل الإعلام العربية المكتوبة والمسموعة «بالعبرية الفصحى» كما يقول المرحوم نزار قباني، جاهلة أو متجاهلة بأن إيران أصلب من أن تهزها ضربة خاطفة، يتردد الغرب والكيان الصهيوني حتى الآن في اللجوء إليها أو حتى حرب ضارية، فما بالك من حركة مخملية ساذجة أيا تكن الأسماء اللامعة التي يمكن أن تنبهر بها من أهل الداخل أو الخارج لا فرق. لمن لا يعرف إيران جيدا نقول انتظروا المزيد من المفاجآت من الآن فصاعدا، مادام الغرب قد اختار الحرب الناعمة المفتوحة، وهذان الزلزالان ليسا سوى البداية. * الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء