بدأت دور نشر كثيرة في العالم العربي تهتم بترجمات روايات كافكا، وإذا كان بعضها قد ترجم القليل من كتبه في العقود القليلة الماضية، ففي السنوات العشر الأخيرة لوحظ ان أكثر من دار عمد إلى ترجمة روايات كافكا ووضع دراسات عنه، خصوصاً {دار الحصاد} في سورية، لكن مشكلة هذه الدار أن كتبها غير متوافرة على نحو جيد، وتحتاج إلى طبعات أكثر أناقة لهذا الكاتب الكبير، وكان صاحبها إبراهيم وطفي ذكر في مقدمة بعض المجلدات ما أسماه: المرحلة الأولى مِن وصول كافكا إلى القارئ العربي وتمتد بين عامي 1947 و 1994، وقد وضع أسسها وحدّد معالمها إثنان هما الأديب المصري طه حسين (الذي نشر أول مقالة بالعربية عن كافكا في مجلة {الكاتب}) والشاعر العراقي سعدي يوسف.

Ad

كل ترجمة لكافكا الى العربية بمثابة حدث، خصوصاً أن فئة من كتاب العالم العربي تتهم الكاتب التشيكي بالصهيونية وتدعوا إلى إحراق تراثه، خصوصاً أيضاً أن إسرائيل تحاول بالوسائل كافة الاستيلاء على تراث كافكا لمجرد أنه من الطائفة اليهودية، ولا غرابة في ذلك طالما أنها تحاول الاستيلاء على معظم التراث الفلسطيني، من اللوحات التشكيلية وصولاً الى الفلافل.

بات الحديث عن كافكا كالحديث عن {أولياء الأدب}، رغم أن الكاتب بقي في الظل طوال حياته، ولم يصدر إلا بعض الكتيبات، وأوصى بحرق كتبه، ومن هنا بدأ يدخل في دائرة النجومية والأسطورة، وهذا ما حدث أيضاً مع نيتشه وغيره من مبدعين لمعوا بعد غيابهم، وميزتهم أن أشعلوا أنوار الحداثة وسرقوا متعة الكتابة من أسلافهم وأحفادهم معاً. لنقل إن كثيراً كثيراً من أدباء نوبل تأثروا بروايات كافكا واستعاروا من شخصياته، فليس غريباً اهتمام بعض دور النشر العربية بترجمته، على رغم مرور نحو قرن على رحيله.

في هذا الإطار، صدرت في القاهرة ترجمة جديدة لرواية {المحاكمة} لكافكا، مصوّرة برسوم شانتال مونتلييه ومن إعداد ديفيد زين ميروفيتز وترجمة فادي عوض.

تحكي الرواية قصة جوزيف الذي اعتقل ذات صباح من دون أن تُشرح له الأسباب، ليجد نفسه في صراع مرير ضد إجراءات قضائية في غاية الغموض. ويُقذف به من مواجهة تلو أخرى، ثم تتنامى في داخله مشاعر الإحباط من أن يُثبت براءته في مواجهة تُهم مجهولة.

عبر تسعة فصول، تتنامى مشاعر الإحباط داخل جوزيف ك، الذي يعجز عن إثبات براءته فى مواجهة تهم مجهولة في لوحة شديدة البؤس للبيروقراطية التي تدهس حياة مواطنيها المغرَّبين. يبدأ الفصل الأول بمشاهد عدة يُفاجأ فيها البطل بمجموعة تقتحم منزله، ويظن أن أصدقاءه يمازحونه لأن اليوم هو عيد ميلاده الثلاثين، ويجيبه أحدهم عندما يسأله عن تحقيق الشخصية: {خبراء السلطة لدينا لا يسعون إلى الجريمة، لكنهم يؤخذون بها فيرسلوننا لتتبع الأمر، هذا هو القانون}.

 يؤمن بطل الرواية بحتمية الدفاع عن نفسه، بعدما أصبح متورطاً في قلب الحدث، وبعد أن أخفق محاميه هالد في صياغة مذكرة الدفاع عنه، ويبدأ ك في البحث عن رسام اسمه تيتوريللي يرسم بورتريهات للقضاة، ويعرفهم شخصياً، آملاً أن يساعده فى الوصول إليهم للتأثير عليهم. يسأله الرسام: {هل أنت برئ؟}، فيجيبه ك: {تماماً}، فيخبره الرسام: {الموضوع بسيط إذاً} ، فيقول ك: {لا، بمجرد أن توجه التهمة إلى شخص، تقتنع المحكمة بأنه مذنب، ويكون من الصعب تغيير رأيها}. ثم يخيره الرسام بين ثلاثة أنواع من البراءات، أولها براءة مطلقة، أو براءة ظاهرية، أو تأجيل إلى أمد غير مسمى، ورغم أنه يؤمن بأن البراءة المطلقة هي أفضلها جميعاً، لكنها لم تحدث مرة سابقاً.

يوميات

صدرت عن {هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث} في الإمارات "يوميات فرانتس كافكا"، ترجمة خليل الشيخ. هذه اليوميات كتبها كافكا على مدى 13 عاماً (1910 ـ 1923)، وأهداها إلى صديقته ميلينا، راجياً إيَّاها ألا يراها أحد قبل وفاته. لاحقاً، حصل صديقه ماكس برود عليها ونشرها لاحقاً {غير مكتملة} عام 1937، ثم كاملة في أوائل الخمسينات. في يوميات كافكا شيء مشع جداً والقشة التي تكسر جليد الكتابة.

 تتألّف اليوميات عادة من مجموعة تجارب وخبرات وملاحظات ورؤى يعيشها كاتبها ويدونها من غير أن يقصد نشرها لاحقاً، وقد حرص كافكا على الدوام أن تظّل يومياته حبيسة أدراجه لا تكاد تعرف عنها إلا دائرة ضيقة من الأصدقاء والمقرّبين. واليوميات كما تبدو للقارئ تلقي أضواء كاشفة على دواخل عالم كافكا، وتبين أزمات ذلك العالم وما شهده من اضطراب وإحساس باللاجدوى، لكن التدرّج الزمني فيها يظلّ مفيداً لإيضاح ما طرأ على عالم كافكا من تحولات.

يشير خليل الشيخ الى أن هانينتس بوليتسر، أحد أوائل الدارسين الذين تنبّهوا الى أن المرء يحتجز في كتابات كافكا في دائرة تكرارات يصعب تجنبها. فهو لا يتحرك إلى الأمام ولا إلى الوراء، بل يبقى ضمن دائرة، يقول كافكا: {تتحرك الحياة المجتمعية عبر دائرة، وحدهم الذي يحبون أسرى لآلام محددة يفهمون بعضهم بعضاً، لأنهم يصنعون نظراً إلى طبيعة آلامهم دائرة يتبادلون فيها الدعم. إنهم على امتداد حواف دوائرهم الداخلية}.

 جبرا إبراهيم جبرا أحد أوائل الذين أشاروا إلى السمو في الأدب العربي الحديث، وإن جاء ذلك على لسان فالح حسيب وهي شخصية كافكاوية: {من عادة كافكا في مذكراته (!) أن يصف تجربة ما، ثم يعود فيصفها على نحو آخر}. يقول كافكا: {إنّ معظم الكلمات التي أكتبها لا ينسجم بعضها مع البعض الآخر. إنني أستمع إلى الحروف الصامتة وهي تحتك بعضها ببعض على نحو صفيحي، وإلى الحروف الصامتة وهي تغنى كأنها زنجي في معرض. إن شكوكي تحيط مثل الدائرة بكل كلمة... يوجب علي أن أخترع كلمات تكون قادرة على نفخ رائحة الجثث في اتجاه لا يصيبني مثلما لا يصيب القارئ مباشرة}.  ويوضح في مكان آخر: {إنني أكره كل ما لا علاقة له بالأدب، وتجعلني الحوارات (لا سيّما تلك التي لا علاقة لها بالأدب) أصاب بالملل مثلما يضجرني قيامي بزيارات}. المدهش أنّنا نجد أنفسنا أمام رجل مولع بالفشل في العلاقات، لكنّ اليوميات تقدّم إلينا أيضاً {ما طرأ على عالم الكاتب من تحولات}.

قال كافكا في يومياته العبارة الآتية: {لا تدعوا الكآبة تأخذكم بعيداً}، ربما علينا أن نأخذها شعاراً لبعض المثقفين.