وأد الفتن!
خطاب صاحب السمو الأمير للشعب الكويتي مساء الثلاثاء الماضي، بتوقيته ومضمونه، دليل قاطع على أن الساحة السياسية تمر بمنعطف خطير، والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق أكثر من جهة وبشكل مباشر.فعندما تتدخل القيادة السياسية في خط الخلافات في المجتمع فهذا مؤشر واضح بأن الوضع العام غير صحي على الإطلاق، وكلمات سمو الأمير عبّرت عن ذلك وبنبرة لم تخل من الحزن والغضب في آن واحد، ووجهت بشكل موازٍ الدعوة الملزمة إلى التقيد بمرجعية الدستور والاحتكام إلى القانون.
ولم يكن خطاب سمو الأمير الأخير هو الأول من نوعه في التحذير من أتون الفتن الفئوية والطائفية المتفاقمة يوماً بعد يوم، وقد أشرنا في عدة مقالات سابقة إلى أن كلمات سموه في العديد من المناسبات وعلى مدى السنوات القليلة الماضية قد ركزت بشكل واضح ومباشر إلى هذا النوع من مصادر تهديد الوحدة الوطنية، ولكن مع الأسف الشديد لم يكن التعاطي مع تلك التوجيهات يرقى إلى مستوى المسؤولية، بل على العكس كان التمادي والإصرار والمكابرة من قبل العديد من الأطراف في النفخ في ملف الاصطفاف الفئوي والطائفي والقبلي.ويبدو أن هناك منهجية منظمة في التعبئة والتحريض والسعي الحثيث نحو تعزيز كل أنواع الاستقطاب الفئوي والمذهبي والمناطقي، ولعله بمباركة حكومية في بعض الأحيان، ويعود أحد الأسباب الرئيسة في ذلك، حسب فهمي وتحليلي الشخصي، إلى تبدل المواقع والمواقف السياسية داخل مجلس الأمة، وظهور أصوات معارضة جديدة لم تكن مقبولة لا من قبل الحكومة ولا من حلفائها الجدد. وكان أقصر الطرق في ضرب هذه المعارضة من خلال تأليب جزء من الشارع الكويتي عليها والضرب في انتمائها الوطني، والآلية الوحيدة لإنجاح هذا المشروع يكمن في إثارة الحضر ضد البدو، وتفاقمت هذه النبرة مع مرور الوقت بسبب الصمت الحكومي من جهة والهمس المتبادل داخل الدواوين وفي المنتديات "زين يسوون فيهم"!أما التحرشات الطائفية الممتدة أساساً عبر سنوات ليست بالقليلة فقد جاءت لتكمل محاولات التفتيت المجتمعي لعلم مروجي هذه الفتن بأن النزعة العاطفية وردود فعل عوام الناس في هذا الملف يسيطر عليها الشارع، وينحشر العقلاء في زاوية ضيقة ومحرجة لا يمكنهم التأثير الإيجابي أو التحكم بمفاتيح التهدئة، ومرة أخرى اعتبرت الحكومة مثل هذا الملف ورقة سياسية يسهل استخدامها في تأجيج طرف على آخر في كل مرة، ولذلك كان التعاطي الحكومي يتسم إما بالصمت المريب بناءً على حسابات تكتيكية وإما الكيل بعدة مكاييل لإرضاء فئة ما متى تطلب الأمر ولو لفترة مؤقتة.ولهذا، فإن اللجوء إلى الشارع كان في المقابل أسهل الطرق وأكثرها نجاحاً في إثبات الوجود، بل إن التحرك الحكومي بناءً على حركة الشارع في تفعيل إجراءات المحاسبة ومتابعة مروجي الفتن والمحرضين على الفئات المجتمعية أعطى مدلولاً جديداً بأن الحكومة لا تتحرك من تلقاء نفسها لممارسة مسؤولياتها إلا بضغط من الشارع!ومهما كانت الاجتهادات والنوايا والأهداف من الأحداث الأخيرة، فهذه صفحة يجب أن تطوى بعد خطاب الأمير وتفعيل مضامينه الأبوية المسؤولة، ولإنجاح مثل هذا المشروع يجب على الحكومة أن تبادر أولاً إلى طرح برنامج واضح في كيفية التصدي لأي محاولات مستقبلية لإثارة وتأجيج الساحة، وأن تعلن عن مسطرة قانونية لمبدأ المحاسبة تجاه أي طرف كان، وثانياً، يجب أن تلتقي الأطراف المتنافسة والمتخاصمة برموزها وممثليها مهما كانت اختلافاتها السياسية ومواقفها من القضايا المعروضة على جدول أعمال المجلس أو خارجه من المواضيع العامة ذات الطابع الخلافي في المجتمع لوضع ضوابط الجدل والنقاش بشأنها بعيداً عن كل أشكال وصور المساس الشخصي والفئوي بين الأفراد والجماعات، وهذا هو المحك الحقيقي لوأد الفتن لكل من يتغنى بشعارات الوحدة الوطنية!