الدكتورة ابتهال الخطيب أخطأت في حق مجتمعنا "المحافظ بطبيعته" كثيراً وعليها أن تعتذر فوراً، فقد ارتكبت في حقه جرائم عدة لا تغتفر، أولى جرائمها هي الصدق مع النفس ومع الآخرين، ونحن مجتمع يعشق مَن يكذب عليه ويكره من يهديه عيوبه، وثانيها الصراحة التي لا مكان لها وسط مجتمع "مقنع بطبيعته" يلبس لكل مناسبة أو ظرف قناعاً خاصاً به يجمّله في عيون الآخرين، أما أشنع جرائمها وأشدها وقعاً على النفس فهي جريمة "التفكير" التي ستجعلك في جهنم وبئس المصير لأنها تكشف زيف الموروث، وغباء العادة والتقليد، ورداءة العقول التي تقود قطعان الغنم البشرية.

Ad

 مخطئة ابتهال الخطيب ولا شك، ما كان ضرها- هداها الله- لو أنها لبست قناعاً جميلاً من الأقنعة المزيفة والمتناثرة حولها، كي يفرح بها القوم ويشيدون بأخلاقها العالية وفكرها الجميل، وليضعوها على قائمة الفائزين بالجنة، والتي أعدوها بأنفسهم دون حاجة إلى انتظار يوم الحشد العظيم، حين تُوفَّى كل نفس ما تستحق من قبل علام الغيوب وحده!

***

يخيل إليَّ أحياناً أن هناك يداً خفية مهمتها لخبطة الأشياء ووضعها في غير محلها، فلا يعقل أن كل ما يحدث من فوضى عفوي وتلقائي، ومن الواضح أن هناك مَن يخطط ويدبر ويضع خطته بدقة وعناية لإحداث هذه اللخبطة العجيبة، هذه اليد الخفية تنقل الأشخاص وتغير مواقعهم التي يفترض أن يكونوا فيها، كما ينقل اللاعب قطع الشطرنج أمامه، فما يفترض به أن يكون خطيباً يعظ الناس ويعلمهم دينهم تراه وقد أصبح خطيباً سياسياً لا يمل الحديث عن السياسة وألاعيبها ودهاليزها، ومَن يفترض به أن يكون جزاراً يسلخ الشياه ويقطعها ليبيعها جملة ومفرقا تراه في غرفة العمليات يفتح بطون الناس ويستخرج منها ما يلزم استخراجه وما لا يلزم، ومن كان أقصى مؤهلاته ترشحه ليكون دلالاً في حراج السيارات تراه قد أصبح نائباً في مجلس الأمة يلعلع صوته في جنبات القاعة متهماً هذا ومهدداً ذاك، ومن كان يفترض به أن يكون مزوراً كبيراً للعملات تراه قد أصبح مزوراً للحقائق على صفحات الجرائد يحوِّل اللص شريفاً ويجعل الشريف لصاً، ومن كان يفترض بها أن تجري في الشارع يلاحقها الصبية الصغار وهم يصيحون "العبيطه أهه" صارت فنانة أو مذيعة "سوبر ستار" تلاحقها الصحف ويتتبع أخبارها أولاً بأول المعجبون والمعجبات، وغيرها وغيرهم كثير في هذا الوطن... وفي كل وطن ينطق الضاد أياد خفية أخرى!

***

مبروك يا حكومة، يا وزارة التربية، يا شعب، المكتبات في طريقها للانقراض في وطنكم، فاليوم أيضاً- بالصلاة على النبي- تحولت مكتبة عامرة بالكتب إلى مطعم  لبيع سندويتشات الفلافل والشاورما، والمصيبة أن صاحبها هو نفسه بشحمه ولحمه لم يتغير، والحكاية أنه مل وتعب وزهق من محاولته تغذية عقول تعاني فقدان شهية مستمراً ودائماً للعلم والفكر والثقافة، وأنه وجد أن خير تجارة تدر عليه الربح ولا تخسر أبداً هي تغذية "الكروش"، فشهية الشعب على الأكل مفتوحة دائماً ولا تتوقف أبداً، و"بلا كتب... بلا هم... بلا بطيخ"!

والسؤال الذي شغلني بعد تناول سندويتشة فلافل من الدرجة الثالثة هو: ما فائدة تعليمنا الذي تصرف عليه الدولة مئات الملايين كل سنة إذا لم تكن نتيجته حب العلم والاطلاع؟! هل يذهب الطالب إلى المدرسة كل صباح لكي يحفظ له كلمتين يمتحن فيهما ثم ينساهما بعد حين؟! أم لكي يتعلم عشق المطالعة التي تمرن عقله باستمرار على هضم الأفكار والثقافات المتعددة والمتنوعة طوال حياته؟!

لا خير إذن في التعليم، وكل الملايين التي صرفت عليه ذهبت هباءً منثوراً، مادام الطالب يتخرج من المدرسة، وهو يكره الكتاب ولا يطيق رؤيته أو شم رائحته، وكل ما يعنيه في هذه الحياة هو تغذية "الكرش"... وليذهب العقل وغذاؤه إلى الجحيم!