كنا قد حذرنا القيادة العراقية في نهاية مقالنا السابق: "العراق: بين اللاهوت السياسي إلى الفلسفة السياسية"، من ألا تقع في الخطأ نفسه الذي ارتكبه عبدالناصر في 1962 في "اللجنة التحضيرية"، عندما قرر العزل السياسي، بدلاً من العدل السياسي لبعض السياسيين في العهد الملكي.

Ad

* صدقت توقعاتنا

وقلنا إن نوري المالكي سيذهب بالعراق إلى المصير نفسه الذي انتهت إليه الثورة المصرية 1952، لو أصرَّ على العزل السياسي لـ517 ناشطاً سياسياً ومرشحاً للبرلمان العراقي الجديد. وكنا نعلم علم اليقين، أن العراق لن يذهب إلى ما ذهب إليه عبدالناصر، لأسباب كثيرة منها:

1- أن مصر كان يحكمها دكتاتور مطلق هو عبدالناصر، الذي كان يريد أن يقول للشيء كُنْ فيكون، وأن الدكتاتور المقابل له (صدام حسين) قد انتهى من العراق. وفي ظني، أن العراق لن يعود إلى الدكتاتورية ثانية، كما لن تعود أوروبا الشرقية إلى الاتحاد السوفييتي، والشيوعية.

2- إن العراق يتأسس اليوم كدولة دستورية، تحكمه مؤسسات سياسية دستورية، وليس مجلس قيادة ثورة على رأسه قائد ثورة، وهو وحده من يقرر مصير بلده، ويُشكِّل حاضره ومستقبله، كما كانت الحال عليه في مصر.

3- لا زعيم فرداً مطلقاً الآن في العراق، كسعد زغلول، الذي كان يقول إنه "زعيم الرعاع"، أو كعبدالناصر. ففي ظني، أن الزعامة السياسية الفردية المطلقة في العراق قد انتهت، وأصبحت الزعامة للشعب بمجمله فقط، وللمؤسسات الدستورية. وأن دولة عظمى كأميركا الآن تتعهد هذا، وترعاه من قريب ومن بعيد.

* عودة العقل السياسي إلى العراق

وكنتُ متأكداً، في الأسبوع الماضي، من أن العدل السياسي لا العزل السياسي، هو التوجُّه السليم والصحيح في العراق الآن، وقد غضب مني كثير من الأصدقاء العراقيين على هذا الرأي، وتوّجت هذا التوجه "الهيئة التمييزية" في البرلمان العراقي، حين أقرت الحق للــ517 المشمولين بالاجتثاث (يا لهذه الكلمة مما فيها من قُبح وعنف ودموية) من الترشح في الانتخابات التشريعية القادمة في 7/3/2010 كأي مواطن عراقي آخر، على أن يُنظر في ملفاتهم بعد الانتخابات.

* إيجابيات العدل السياسي

لقد وهبت الديمقراطية العراق قداسة شامخة عنوانها العدل السياسي، وسيكون- في ظني- لهذه الخطوة نتائج إيجابية كثيرة، ستعود على العراق الجديد بالخير العميم، ومنها:

1- أن البعثيين من هؤلاء الـ517 مشمولاً بالمنع السابق من الترشح في الانتخابات سيدركون ويوقنون تمام اليقين، وأكمله، أنهم يتمتعون الآن بحكم ديمقراطي سليم ومنصف، تكون السلطة فيه للشعب وليس لتسلُّط الحاكم. فلا افتئات غاشما وجائرا على الحقوق السياسية. فالديمقراطية العراقية الحقة الآن، هي سلطة الشعب الذي قال كلمته بالأمس على لسان "الهيئة التمييزية" في البرلمان العراقي. فماذا لو كان هذا الأمر في عهد دكتاتورية البعث السابقة، التي حكمت العراق طيلة 35 سنة (1968-2003) بقيادة صدام حسين؟ على البعثيين الآن، أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال، فهم يعرفون إجابته تماماً.

2- أن العراق الجديد بهذا القرار، وبهذه الخطوة، أثبت للداخل والخارج أن العدالة، والمساواة، والحق، والعقل، هي أدوات العراق الجديد في الحكم على كل مظاهر الحياة في العراق، وأنه لا سلطة في العراق غير سلطة القانون، والعقل. وأن العراق وإن تعتريه الآن (وفي فجر ثورته) بعض العقبات والزلات، وسيطرة اللاهوت السياسي والديني والطائفي على بعض مفاصله، فإن كل هذا زائل وفانٍ مع الزمن والجِد والعمل المتواصل. ووجود الحال الآن في العراق ليس من المحال تغييره، فالعراق الآن (وعلينا أن نتذكر هذه الحقيقة دائماً) ليس وحده، ولم يعد من دون ظهير، كما كان في السابق طيلة 35 سنة مضت، من حكم البعث الدكتاتوري.  العراق اليوم مكفول ومضمون، ضمانة سياسية من دولة عظمى، تراقب كل ما يجري فيه، وتُعدِّل من وقت إلى آخر مسيرته وسيره، وتعود لتضعه ثانيةً على السكة الصحيحة، كلما حاول السياسيون الطائفيون حرفه عن هذه السكة، وإخراجه عنها، لكي ينقلب على نفسه، وتعود الفوضى من جديد، كما كانت عليه الحال قبل 1968. وعلينا أن نتذكر جيداً ودائماً، أن هذا الكفيل وهذا الضامن، قد أصبح شريكاً غير مضارب (له في الخسارة، وليس له في الربح) للعراق، بعد أن دفع حصته، التي بلغت مئات المليارات من الدولارات، وآلاف الجنود القتلى، في هذه الشراكة على مدار السنوات الست الماضية.

3- لقد أدرك العراق من خلال قرار "الهيئة التمييزية" في البرلمان العراقي، أن البعثيين ليسوا هم أعداء العراق، بقدر ما هم الإرهابيون من البعثيين والأصوليين الدينيين والطائفيين المتشددين، وكل من يحاول تقويض الكيان السياسي العراقي الجديد. فلا عودة لدكتاتورية البعث، ولا عودة لدكتاتورية السُنَّة، ولا عودة لدكتاتورية الشيعة، ولا عودة لدكتاتورية أي طائفة، أو ملّة، أو حزب سياسي أو ديني. ومحاولات جيران العراق من سُنَّة وشيعة وبعثيين، تحويل العراق إلى دكتاتورية جديدة، هو "حُلم إبليس في الجنة" مادام الكفيل والضامن هناك، وراء الأطلسي، عينه على العراق على مدار الساعة، لا تغفو ولا تنام، ومادام الشعب العراقي الآن، قد ذاق طعم الحرية، وحلاوة الديمقراطية المُشرَّبة بالدم، وليس بقَطْر السُّكَر.

4- أن العراق الآن قد جاء بمفهوم جديد للديمقراطية العربية، فقد كانت الديمقراطية العربية، قبل العراق الجديد، عبارة عن انتخابات مزورة، وصناديق اقتراع ملغومة، وشعارات على المنابر، وأحباراً في الصحف، فأصبحت الديمقراطية العربية في العراق الجديد، هي "قدرة الشعب على التغيير"... تغيير الحُكَّام بالاقتراح الحر كما رأينا في 2005، وكما سنشاهد بعد مارس القادم، بعد أن تكون الانتخابات التشريعية قد جاءت بالوجوه السياسية الجديدة، من خلال اقتراع حر نزيه، ومن هنا، فإن العراق ينتقل بهذه الهداية السياسية، من اللاهوت السياسي (احتكار السلطة، وامتلاك الحقيقة السياسية المطلقة الواحدة) إلى الفلسفة السياسية التي تتلخص في قدرة الشعب- كأعلى وأقوى سلطة- على التغيير.

* كاتب أردني