انتهى الأمر بأن بصق (نعمان) في وجهي.

Ad

لم أُصَب بقطرة من رذاذ البصقة، لأن المصادفة شاءت لها أن تستقرّ بكاملها على وجه (جلّاوي) الذي كان يحجز بيني وبينه، لكنّ صوتها المدوّي كان موجهاً نحوي أنا بالذّات.

ولن أكون مغالياً إذا ادّعيت أنّه صفعني أيضاً، لأنّ وقوع الصفعة على خدّ «جلّاوي» لا يغيّر شيئاً من حقيقة أنّ الصفعة كانت موجهة نحو خدّي أنا بالذّات.

صرخت به من وراء جثة جلاوي: اسمع يا نعمان. نحن لسنا في غابة، إننا والحمد لله نعيش في مدينة، والمدينة فيها شرطة وقوانين... وعليه فإنني سأطلب ردّ اعتباري من الحكومة نفسها.

شوّح بيديه: أتهدّدني؟ سأذهب معك بلا تأخر... القانون بيننا، وسنرى إن كان لدى الحكومة اعتبار لمن يضرب أولاد الجيران.

كرّرت ما قلته عشرات المرّات، قبل أن أندفع نحو مركز الشرطة: لم أضرب أولادك. ولم أشتمهم. إنهم كذّابون.. لم أفعل غير أن طلبت منهم بالإشارة أن ينزلوا من على مقدّمة سيّارتي.

أكدّ جلّاوي وهو يحاول أن يستوقفني ويستوقف نعمان الرّاكض في أثري، لم يضربهم.. فقط قال لهم (كش كش كش).

وحين لم يفلح في إيقافنا، جارانا في الهرولة، وعندئذ توقفت وطلبت منه العودة، لكنه أصرّ على مرافقتنا إلى الشرطة كشاهد.

قلت له متحامياً ممّا لا تحمد عقباه: كن في شأنك يا جلّاوي.. إنني أستطيع الدفاع عن نفسي.

قال نعمان متحدّياً: دعه يشهد. إنه لا يُخيفني.

انفجرت حانقاً: يا أخي لا أريد شهادته، ارجع يا جلّاوي.

لكنّ جلّاوي لم يرجع، بل زاد من سرعته وكأنه ينافسنا في سباق، وقال من خلال لهاثه: أنا لا أدافع عن أحد.. أنا أدافع عن الحقّ.

أمسكت بطرف جلبابه وتوسّلت إليه أن يخرج من القضية، لكنّ إمساكي به لم يوقفه، بل جرّني وراءه كعربة قطار.

قلت للمحقق باختصار: المسألة وما فيها أنّ أولاد جاري هذا لا شغل لهم سوى الرقص فوق سيارتي طول اليوم، إنّهم لا يختارون من جميع السيّارات التي في ساحة العمارة إلاّ سيّارتي أنا ليقيموا فوقها دبكتهم.. وقد تعبت، دون جدوى، من كثرة ما توسّلت إليهم أن يكفّوا عن هذا العبث، ولطالما شكوتهم لوالدهم لكن المشكلة لم تنته أبداً. واليوم جاءني جاري هذا وادّعى أنني ضربت أولاده. أقسم لك أنني لم أفعل غير أن أشرت لهم بأن ينزلوا من على سيارتي.. لكنه أزبد وأرعد وشتم وبصق وصفع. إنني ياسيّدي أطلب أن تأخذوا بحقّي منه وأن تردّوا لي اعتباري.

وجّه المحقّق بصره نحو نعمان وسأل: ما قولك أنت؟

ردّ نعمان: قولي إنّه ضرب أولادي. حلفوا لي أنه ضربهم.. والدليل أنّهم كانوا يبكون من شدّة الوجع. الإشارة باليد لا تجعل الأطفال يبكون من الألم.. أليس كذلك؟

في هذه اللحظة اندفع جلّاوي موسّعاً بذراعيه الفجوة ما بيني وبين نعمان، حتى التصق بطاولة المحقّق، تاركاً إيّانا خلفه، وصاح بصوت مجلجل: أقول الحقّ ولا شيء غير الحقّ.

بُهت المحقّق، وحدّق فيه مغيظاً: من أنت؟!

قال جلّاوي بأدب: أنا جلّاوي ياحضرة المحقّق.

تساءل المحقق والغيظ لايزال مرتسماً على ملامحه: ما علاقتك بالقضية؟!

قال جلّاوي: أنا شاهد.

رمى المحقّق ببصره نحونا من فوق كتفي جلّاوي وسألنا: أكان هذا حاضراً عندما تشاجرتما؟

لم يدع لي جلاوي فرصة للرد، بل انطلق يعدد كالمدفع الرشاش: نعم يا حضرة المحقق.. حاضر وناظر وباظر أيضا، رأيت كل شيء وسمعت كل شيء من التيسي للفيسي للريسي. أقسم بالله العظيم أن الأولاد قد افتروا على هذا الرجل الطيب. رأيتهم بعيني قبل أن يخرج وهم يتقافزون فوق السيارة (زيق فيق بيق).. وكل ما فعله أنه أشار لهم بيده (كش كش كش).. وعندما لم ينزلوا أعطاهم (شاك طراك طراك).

استوقفه المحقق حانقا: هيه.. هيه.. ماذا أعطاهم؟!

قال جلّاوي: أعني أنه صار يخبط على السيارة بغضب لكي ينزلوا.. ويبدو أنهم خافوا حينئذ، إذ إنهم (تشرمب تشرمب تشرمب) واحدا بعد الآخر.

صرخ المحقق به: ماذا تقول يا رجل؟!

قال جلاوي بكل تهذيب: أقول يا سيدي إنهم قفزوا إلى الأرض.. وما هي إلا لحظات حتى جاء الأخ نعمان يهز الأرض هزا (دُم دُم دُم) ومن دون سلام أو كلام (طراااخ) بكل قوة فوق زجاج النافذة، ثم توجه لهذا الرجل الطيب بكل ما في الدنيا من (كذا وكذا ما كذلك).

تلّه المحقق إليه من جلبابه بعنف حتى حاذى وجهه، وحدق في عينيه بغضب مسعور: لقد دوختني، احك ما رأيت بلا موسيقى تصويرية.. ماذا تعني بهذه الكذاءات؟!

ثاب جلاوي إلى الواقع، وقال وهو يبلغ ريقه خوفا: كان يسبه ويسب أمه سيدي.

قال المحقق: كان بإمكانك أن تقول هذا. تكلم باختصار وإلا فسأضطر لأن ألعن كذا ما كذاك.. واصِلْ.. ماذا جرى بعد ذلك؟

قال جلاوي، وقد استعاد جلبابه وهدوءه: ثم يا سيدي لم أنتبه إلا (تشاك) وطار الشرر من عيني. كانت صفعته قوية سامحه الله.. ولم يكتف بهذا بل نزل علينا (تفو.. تفوو.. تفوووه).

استوقفه المحقق صارخا: كفى، كفى.. لم أعد بحاجة إلى المزيد.

ثم التفت نحو الشرطي الواقف بالباب وأمره بحزم: خذ هذا اليربوع واحبسه في غرفة النظارة، وبعد أن تقفل الباب عليه، اذهب إلى بيت نعمان وأحضر أولاده.

غاب الشرطي مدّة، وعندما عاد مصطحباً الأولاد، قال للمحقّق: وجدتهم يرقصون فوق سيّارة.

هتفت بانشراح: أرأيت ياسيّدي؟ إنها سيّارتي بالتأكيد.

قال المحقّق لنعمان بلهجة جافّة ومؤنبة: عليك الآن أن تعتذر من الأخ، وعليك بعد ذلك أن تحسن تربية أولادك، وإذا تكرّر عبث الأولاد فإنني سأضعك في الحبس لمدة شهر مع الغرامة.

مدَّ نعمان يده إليّ مصافحاً، وابتسر الكلمات مرغماً: سامحني يا أخي.. أنا الغلطان.

قال المحقّق: تفضّلوا الآن.. مع السّلامة.

قلت له: وماذا عن جلّاوي؟!

قال مبتسماً لأول مرة: سيبقى في الحبس إلى أن يقدّم تعهّدا خطيّا بنزع جميع أشرطة الموسيقى التصويرية من دماغه.. وسأحبسك أنت أيضاً إذا جئت به للشهادة مرة ثانية.

ضحكت برغم صعوبة الموقف، وضحك المحقق عاليا، وانتقلت عدوى الضحك إلى نعمان الذي همس لي كالمتشفّي: خلّص شاهدك.

وجّهت بصري نحو جلّاوي المقرفص في غرفة التوقيف القائمة في الزاوية القصيّة من ردهة المخفر، وناديته: سأجلب لك العشاء. لا تجزع يا جلاّوي. الحبس للرّجال.

وجاء صوته المغضب محملا بكل بروق ورعود الأفلام: عشنا ورأينا.. حكومة شيطي بيطي ميطي، تحبس الشاهد وتطلق المتهم!! تررم بررم طنطن.. أهذا قانون أم كمنجة؟!

* شاعر عراقي