قبل أكثر من سنتين ألحقتُ التلفزيون بالستلايت. وصارت همتي أن أتابع أخبار العراق، وندوات سياسييه، ورحابة تبادل الرأي بين المتنافسين على السلطة فيه، همَةَ عراقي يحدَق في أفق الآمال دون كلل. ثم صرتُ أشعرُ عن درايةٍ بأن الأخبار التي تُشيعها الصحافةُ، ويرددها الناس، عن فساد الأحزاب الحاكمة والمعارِضة، وسعيهما التآمري، واستعدادهما لاقتراف الجريمة، والاستحواذ الجشع على الثروات العامة، وعلى المناصب، إنما هي قوت الناس اليومي، الذي تذوى به أجسامُهم وأرواحهم. وصرت أشعر كيف يدبّ التلف في لغة الخطاب، ولغة الحوار. وهذا التلف جديد، ومُريع الطابع. لأنه يعتمدُ فقدانَ المعنى في اللغة، وإضفاءَ هالةِ الرضا المتبادل عليها، والخلاف الديمقراطي فيها، والوعد المُحلَى بالآمال. صارت لغةُ جميع الأطراف المتناحرة عجيبةً في تجرّدها عن المعنى، أو تجردّها عن الواقع المعيش، لأن اللغة وهي تسعى إلى تغييب المعنى، صارت تسعى إلى تغييب الواقع بالمثابرة ذاتها. ولقد غُيب الناسُ الذين يُعانون البطالة، وفقدان السكن، والحر المريع، والفقر المُذل، والأمراض الفتاكة، والقتل المجّان، الناس الأرضيون. وحلّت بدلا منهم «جماهيرُ شعبنا»، «وشعبُنا العراقي العظيم»، «وأبناء العراق في كل طوائفه وقومياته»... إلخ. لقد اختلقت الأحزابُ العقائدية المتناحرةُ جماهيرها الخيالية التي تزعم تمثيلها. على أن هذا ليس ابتكار المرحلة هذه، بل ديدن الأحزاب السياسية العقائدية في كل زمان. إن جماهير الأحزاب، هي تلك التي تخرج في تظاهراتها السياسية في زمن المعارضة. وهي تلك التي تتقاسم الغنائم وحدها في زمن استلام السلطة.

Ad

حدث هذا منذ ثورة أكتوبر الروسية، وعبر كل الانقلابات الحزبية في العالم الثالث. وحدث هذا، بفعل حماقة أميركية، في العراق الديمقراطي أخيراً! ولا أعرف إذا ما كانت الحماقة الأميركية هذه مقصودة، أو بريئة! فقد هزمتْ جيوشُهم أعتى قلعة دكتاتورية، وحطمتْ دباباتُهم القاعدةَ الكونكريتية لنمط السلطة الخلافية الخالد. ولكنها أسلمتْ يدَ الأحزاب الدينية والقومية قيادَ ديمقراطيتها، باعتبارها الممثلة (الشرعية!) للطوائف والقوميات المضطهدة! ولم تكترث للفارق الجوهري بين أحزاب عالمها الديمقراطي، الذي يمليه اجتهادُهم الاقتصاديُ في رعاية الناس، وبين أحزابنا المُستعبدة من قبل «الفكرة» المقدسة، دينية أو دنيوية. وهذه الأحزاب في مسعاها النضالي لاستلام السلطة، أو عند استلام السلطة، لا تعتبر الضميرَ من أولوياتها، بل الهدف والغاية. وليس غريباً اليوم أن يكتشفَ الناسُ المغلوبون على أمرهم غيابَ الضمير، وغياب المعنى على حدّ سواء. ولكنهم لم يكتشفوا ربما، أن الضميرَ، كالمعنى، يحتاج، لكي يحيا، إلى كائن إنساني حي. ورجال الأحزاب العقائدية الدينية والدنيوية لم يعودوا كذلك. فقد غادروا رعايةَ الكائن الحي فيهم منذ زمن، والتحقوا بعبادة الفكرة المجردة. الأحزابُ توزّع غنائمَ السلطة على أعضائها من المناضلين، أسوةً بغنائم الفتوحات الإسلامية التي كانت توزّع بعدالة على المقاتلين وحدهم. والحكمة في ذلك أن أحزاب السلطة لا يمكن أن تأمن دوام سلطتها دون ثروة، وقوّة، وهيبة. وها هي الثروة، والقوةُ، والهيبة تفيض على قيادات الأحزاب المناضلة وأعضائها من كل صوب. الأمر الذي يمنح الجميع شعوراً بالأمان. والتاريخ لا يُخفي حكمَته، ولكن عميت الأعين. قبل أيام اطلعتُ على صور من تظاهرات الناس في البصرة. ولعل أخرى شبيهة لم أطّلع عليها من أماكن أخرى. تظاهرات احتجاج باسم غياب الكهرباء، وغياب العمل، وغياب السكن، وغياب القوت، وغياب الأمان...! ولعلي قرأت علّةً أخرى وراء احتجاجهم، علّة لا تثير الغضب وحده، بل تثير الذعر أيضاً. فهؤلاء الذين عرفوا الذلَّ في أدمى ألوانه عبر ثلث قرن من سطوة الدكتاتور، بدأت ذاكرتُهم، بعد استراحة انفراج الآمال، تنشط وتستعيد الذلَّ ولكن بلون الرماد. لون الخديعة وانطفاء الآمال هذه المرة.

المتظاهرون رفعوا صورة لإبهام بطرف مبتور، دامٍ. الطرفُ باللون القرمزي. لون مشاركتهم الانتخابية، التي سمتها أحزابُ السلطة بالمشاركة البطلة. وتحتها كلمة «نادمون»، منفردةً، صارخة، ولكن مبتلّة بالدموع.

والمتظاهرون رفعوا شعاراً لا يقل إثارةً يقول: «اليوم نتظاهر... وغداً نعتصم... وبعدها نثور!» ولقد ملأني الشعار بالفزع. لأنه صادق. ولأنه ممكن! فالناس تحررت من الداخل. والناس تجاوزت حدَّ اليأس فما تبالي. والناس لن تخسر في موتها شيئاً. والناس مسلّحة أيضاً! وهذه الحقائق كافية لأن تجعل الشعار يملأ أيَّ ضمير حي بالفزع. وهي نذيرٌ أيضاً لأحزاب السلطة في أن تعرف أن الديمقراطية جاءت لخير الناس، لا لخير كهنة العقائد الدينية والدنيوية. وهناك مُتّسع للأمل في هذا العراق السيئ الطالع. فاستجيبوا من أجله لاحتجاج المحتجين، ولاعتصام المعتصمين. ولا تتغافلوا لحين تعتمل الثورة التي ستأكل أخضرهم ويابسكم!