قلت في مقالي السابق «الليبرالية والمزورون» إنه لا عداء ولا خصومة بين الليبرالية والدين، أيا كان هذا الدين، فلا شأن لليبرالي «الحقيقي» بكون الآخر مسلما أو يهوديا أو مسيحيا، ولا يعنيه بأي حال من الأحوال على أي درجة من التدين هو، ولا إلى أي مذهب ديني ينتمي، ولا بكونه ملتزما بواجباته الدينية أم يؤديها نفاقا ورياء، ولا أنه على المذهب الصحيح أم لا، فعلاقة الليبرالي بالآخر قائمة على حرية الفرد فيما يختار، وهو لن يرغمك- مادام ملتزما بليبراليته حقا- أن تترك دينك أو تغير مذهبك، أو يمنعك من ممارسة شعائرك الدينية وقتما تشاء وكيفما تشاء، فالأمر يعنيك وحدك طالما لا ضرر منه على الآخرين، وليس بالضرورة- كما يعتقد البعض- أن يكون الليبرالي كافرا ملحدا، بل قد يكون متدينا وملتزما بتعاليم دينه إلى أقصى حد، ومع هذا يؤمن بالفكر الليبرالي، لأن الليبرالية ليست دينا إنما هي فكر ومنهج حياة لا يتعارض مع كثير من المبادئ الأساسية الموجودة في الأديان... وعلى وجه الخصوص في الدين الإسلامي!

Ad

وهو الأمر الذي يثير عجبي في كل مرة أرى فيها هياجا غير مبرر من «محتكري الإيمان وطاعة الرحمن» على الليبرالية والليبراليين، لا أجد له معنى ولا أرى له سببا مقنعا، بل يجعلني أتساءل بحيرة: هل هؤلاء القوم حين يقرؤون كتاب الله يقرؤونه بتمعن وتدبر وتفكر، أم أنهم يمرون بأعينهم على الحروف والكلمات مرور الكرام يرددونها مرة بعد مرة دون ذرة من وعي أو إدراك... مجرد ببغائية لا يرتجى منها فهم أو استنتاج أو قياس لمقاصد الآيات ودلالاتها؟!

ففي القرآن الكريم، كلام الله الذي يسدون آذانهم ويقفلون عقولهم عند سماع بعض آياته التي لا توافق هوى أنفسهم ولذائذ رغباتهم! فهناك آيات قرآنية كثيرة صريحة تتطابق وتتوافق مع المبادئ الليبرالية التي ندعو إليها ونحث عليها، غير أن القوم يصرون على تجاهلها دائما مع سبق الإصرار والترصد، ففي مجال حرية الاعتقاد يقول تعالى: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» ويقول أيضا: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» ولعل من الجدير ذكره هو سبب نزول هذه الآية الأخيرة، وهو أن رجلا مسلما من الأنصار كان له ابنان نصرانيان، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام: ألا أستكرههما. فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟! فأنزل الله فيه هذه الآية.

وفي مجال حرية الاختيار يقول الله تعالى: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» وهو تذكير من الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بأن مهمته هي أن يذكر العباد فقط، وأنه ليس بمسلط عليهم ليكرههم ويجبرهم على اعتناق الإسلام، أما في مجال المسؤولية الفردية للإنسان عن اختياراته فيقول تعالى: «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» أي أن كل إنسان مسؤول عن عمله فقط يوم القيامة، وأنه لن يسأل عما كان يصنع الآخرون، وهي رسالة نوجهها إلى الذين يكون شغلهم الشاغل علاقة الآخرين بربهم أكثر مما هم مشغولون بعلاقتهم أنفسهم مع ربهم!

أما في مجال احترام عقائد الآخرين فيقول تعالى على لسان نبيه: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» وهي آية واضحة في معناها وضوح الشمس في رابعة النهار، إلا لمن وضع كفيه على عينيه عامدا متعمدا كي لا يرى... وما أكثر من يفعلون ذلك من حولنا!

أما في مجال استقلالية التفكير والاعتقاد وذم سلطان الكهنوت على العقل واتباع العادة والتقليد لكل من سلف فيقول تعالى: «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا»، وهي دعوة إلهية لإعمال العقل الذي وهبنا إياه، وألا نصير إمعات نتبع كل صاحب دعوة ومذهب وتفسير كقطيع من الأغنام لا يملك من أمره شيئا!

كل هذه أيها السيدات والسادة أمثلة على المبادئ الليبرالية التي وردت في القرآن الكريم، وهناك الكثير لا يتسع المجال لذكرها، نهديها لكل من يظن أن الليبرالية عدوة للدين، وأن من يؤمن بها ويطالب باتباعها يريد هدم الأخلاق والقيم وإشاعة الفسق والفجور في المجتمع، وهي دليل آخر لمن ألقى السمع وهو شهيد على أن الإنسان من الممكن أن يكون متدينا وليبراليا في الوقت ذاته، يؤمن بحق الآخرين في حرية الاختيار.

ما ذكرته في المقال هو كلام الله الواضح والصريح، والواجب على كل مؤمن اتباعه... فهل لدى القوم اعتراض على ما ورد فيه أيضا؟!

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة