إن خبراء الاتجاه السائد في مجال الاقتصاد يؤيدون النظرية التي تزعم أن الأسواق «تطهر» نفسها من الشوائب على نحو مستمر. والفكرة الكبرى التي تقوم عليها هذه النظرية تتلخص في أن توظيف الموارد بشكل كامل يصبح أمراً ممكناً إذا كانت الأجور والأسعار كاملة المرونة، وبهذا فإن أي صدمة يتعرض لها النظام ستسفر عن تعديل فوري للأجور والأسعار بما يتفق مع الوضع الجديد.

Ad

وهذه الاستجابة على نطاق النظام بالكامل تفترض حصول المشاركين كافة في المنظومة الاقتصادية على معلومات تامة كاملة عن المستقبل، وهي فكرة منافية للعقل بوضوح. ومع ذلك فإن خبراء الاقتصاد المنتمين إلى التيار السائد يرون أن الجهات الفاعلة في الساحة الاقتصادية تمتلك ما يكفي من المعلومات لإضفاء جرعة من الواقعية على نظرياتها.

إن الجانب الذي ينطبق بصورة خاصة على أسواق المال من هذه النظرية يطلق عليه «نظرية الأسواق الفعّالة»، وهي النظرية التي كان من المفترض أن تتقوض تماماً بعد الانهيار المالي الذي شهده الخريف الماضي. ولكنني أشك في أن يكون هذا هو ما حدث. لقد أشار جون ماينارد كينـز قبل سبعين عاماً إلى زيف هذه النظرية. إن ممثلي النظام لا يعرفون حين يتعرض النظام لصدمة ما ماذا قد يحدث بعد ذلك. وفي مواجهة هذا النوع من عدم اليقين فإنهم لا يعمدون إلى تعديل أوجه أنفاقهم؛ بل إنهم بدلاً من ذلك يمتنعون عن الإنفاق إلى أن ينقشع الغمام، فينزلق الاقتصاد إلى الهاوية.

إن الصدمة، وليس التعديلات الواجبة لمواجهتها، هي التي تنتشر في أنحاء النظام المختلفة. ويعمل العجز الحتمي في المعلومات على عرقلة آليات التعديل السلسة كافة- على سبيل المثال، الأجور المرنة وأسعار الفائدة المرنة- التي تطرحها النظرية الاقتصادية السائدة.

إن الاقتصاد الذي تضربه صدمة ما لا يحتفظ بقدرته على الطفو؛ بل إنه يتحول إلى بالون مثقوب. ومن ثَمَّ فقد افترض كينز أن الحكومة لابد أن تضطلع بمهمتين في هذا السياق: أولاً ضخ الهواء إلى بالون الاقتصاد حين تبدأ بالانكماش، وثانياً، العمل على تقليص فرص حدوث الصدمات الخطيرة في المقام الأول.

واليوم يبدو أننا قد تعلمنا الدرس الأول بالفعل: فقد نجحت عمليات الإنقاذ وخطط التحفيز المختلفة في حفز الاقتصاد الكاسد بالقدر الكافي لكي نتوقع على نحو معقول أن المرحلة الأشد سوءاً من الكساد أصبحت خلفنا. ولكن بالحكم من خلال المقترحات الأخيرة المطروحة الآن في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يتصل بإصلاح النظام المالي فمن الواضح أننا لم نتعلم الدرس الثاني.

من المسلم به أن هذه المقترحات لا تخلو من بعض العناصر الطيبة. على سبيل المثال، تقترح وزارة خزانة الولايات المتحدة أن مقدمي قروض الرهن العقاري لابد أن يحتفظوا بمصلحة مالية «مادية» في القروض التي يقدمونها، وذلك على خلاف الممارسة الحديثة المتمثلة في تحويل هذه القروض إلى أوراق مالية. وهذا الاقتراح، إلى جانب أمور أخرى، من شأنه أن يقلل من الدور الذي تلعبه وكالات التصنيف الائتماني.

ولكن ليس هناك ما يشير إلى حجم ذلك القسم من القرض الذي يتعين عليهم أن يحتفظوا به أو لأي مدة. ولا تتوخى هذه الاستجابات الرسمية للأزمة الحد من كم القروض المقدمة بما لا يتجاوز مضاعف يتم تحديده سلفاً لدخل الجهة المقرضة، أو نسبة معينة من قيمة العقار الذي يرغب المقترض في شرائه. ويخشى بعض المراقبين أن يؤدي هذا إلى إبطاء عملية استعادة العافية، ويرى هؤلاء أنه كان من الأفضل لعملية استعادة العافية ولعملية الإصلاح أن يعدا بتقديم مثل هذه القيود في غضون عامين (على سبيل المثال).

إن أكثر ما خيب آمال أنصار الإصلاح كان ذلك الرفض الرسمي لاقتراح «جلاس- ستيجال» فيما يتصل بإصلاح النظام المصرفي. إذ إن ذلك الاقتراح كان من شأنه أن يعيد الفصل بين الأعمال المصرفية القائمة على التجزئة والأعمال المصرفية الخاصة بالاستثمار، وهو ذلك الفصل الذي جرفته موجة إلغاء التنظيمات في الثمانينيات والتسعينيات.

كان المنطق وراء ذلك الفصل واضحاً كل الوضوح: فالبنوك التي كانت ودائعها مضمونة بواسطة دافعي الضرائب لا ينبغي أن يُـسمَح لها بالمضاربة بأموال المودعين. وبدلاً من ذلك فقد اختارت مقترحات الإصلاح مزيجاً من متطلبات رأس المال الأعلى للبنوك الرائدة والتمويل المسبق للتأمين على الودائع من خلال فرض رسم خاص على البنوك.

ويبدو أن الشهية لم تكن مفتوحة لتنويع متطلبات كفاية رأس المال على نحو معاكس للتقلبات الدورية. وهذا من شأنه أن ييسر نشوء واقيات رأس المال في سنوات الرواج، والتي يمكن سحبها بعد ذلك في السنوات العجاف.

لا شك أن المقترحات كافة لا تخلو من الصعوبات فيما يتصل بتقييد مجال الأعمال المصرفية «المحفوفة بالمخاطر»، خصوصاً في سياق اقتصاد عالمي حيث تتمتع رؤوس الأموال بحرية الحركة. وما لم تكن التنظيمات المصرفية متطابقة عبر الحدود، فسيكون المجال فسيحاً أمام «المراجحة التنظيمية». وبالمثل فإن البنوك سيتولد لديها الحافز إلى «المقامرة» على متطلبات كفاية رأس المال من خلال التلاعب بالكيفية التي يتم بها تعريف رأس المال والأصول. والواقع أن البنوك الاستثمارية مثل «غولدمان ساكس» و»باركليز كابيتال» بدأت بالفعل في ابتكار أنماط جديدة من الأوراق المالية بهدف تقليص تكاليف رأس المال المترتبة على الاحتفاظ بالأصول الخطرة.

غير أن المشكلة الأساسية هنا هي أن كلاً من المسؤولين عن التنظيم والمصرفيين يستمرون في الاعتماد على نماذج حسابية تعد بأكثر مما يمكنها تسليمه لإدارة المخاطر المالية. ورغم أن المسؤولين التنظيميين والمصرفيين يضعون ثقتهم الآن في نماذج «تعقل الاقتصاد الكلي» حين يتصل الأمر بإدارة المجازفة «الشاملة»، بدلاً من السماح للمؤسسات المالية بإدارة مجازفاتها بنفسها، فإن كلاً من الجانبين يتعثر على ضوء اعتقاد واهٍ مفاده أن كل المجازفات قابلة للقياس (وبالتالي يمكن السيطرة عليها)، وذلك في تجاهل واضح للتمييز الحاسم الذي أشار إليه كينز بين «المجازفة» و»عدم اليقين».

إن الخلاص لا يكمن في تحسين إدارة المجازفة سواء من قِـبَل الجهات التنظيمية أو البنوك، بل في اتخاذ الاحتياطات الكافية ضد عدم اليقين، كما أشار كينـز. وما دمنا نستعين بالسياسات والمؤسسات اللازمة لتحقيق هذه الغاية فسيكون بوسعنا أن نترك المجازفة لترعى نفسها بنفسها. ولقد نجحت الإصلاحات التي تبنتها وزارة المالية في تقليص التحدي المتمثل في التعامل مع العواقب الضمنية المترتبة على هذه الرؤية الحاسمة.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، والأستاذ الفخري للاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»