قافلة الحرية المشبوهة؟
ما هي حكاية قافلة الحرية التي نظمتها حركة غزة الحرة، والتي يبدو أن هناك من الطرفين من يسعى إلى حرفِها عن اتجاهها الإنساني الخالص، وبالذات عندما تبدأ الحكومات الاتّكاء والتحرك وكأن حركة غزة الحرة صنيعتها.
في عام 2006 طردت إسرائيل عدداً من الناشطين الإنسانيين العاملين في قطاع غزة، وأغلبهم من الجنسية الأميركية، لأنهم كانوا يمثلون إزعاجاً وشهوداً على التعسف والصلف الإسرائيليين. فكان أن اجتمع عدد منهم في ولاية كاليفورنيا الأميركية. كان المجتمعون في غالبيتهم مِمَّن يتمتعون بحالة مادية جيدة، فالناطقة الرسمية باسم الحركة والتي كانت تصرِّح باسمها من قبرص جريتا برلين (69 عاماً)، هي مهندسة وتملك شركة هندسية في كاليفورنيا. تباحث المجتمعون في كيفية العودة إلى غزة، وتمخَّض الاجتماع عن فكرة الوصول إلى غزة عن طريق البحر. لم يكونوا يعرفون حينها أيَّ شيء عن السفن ولا عن كيفية الوصول، لكنها الأفكار الإنسانية المبدعة من أشخاص لهم هدف محدد، وهو نصرة الإنسان المُضطهَد وكرامته، أياً كان دينه أو لونه أو عقيدته أو جنسه أو أصله أو فصله. تلك الأفكار الإبداعية التي تأسست بموجبها منظمات دولية غير حكومية ذائعة الصيت والتأثير، كمنظمة العفو الدولية وأطباء بلا بحدود واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولكل واحدة منها قصة وراءها فرد مخلص لكرامة الإنسان، لا لنصرة جماعته أو أهل دينه أو مذهبه أو مواطنيه، وما إلى ذلك. لم يتخيل المجتمعون أن ينجحوا في مسعاهم ذاك، إذ إنهم بعد أن شعروا بتخاذل الحكومات في رفع الحصار، شعروا أنهم كمجتمع مدني عليهم أن يفعلوا ذلك، وإدراكاً منهم للتشابك والحساسية المفرطة في الموضوع، وبالنظر إلى خلفياتهم في العمل الإنساني، وضعوا شروطاً صارمة على أنفسهم بالتزامهم مبدأ عدم استخدام العنف أو الدعوة إليه، وعدم ارتباطهم بأيِّ شكل من الأشكال بالتوجهات السياسية لأيٍّ كان، ورفضهم تلقي تبرعاتٍ من أيِّ حكومة كانت أو أيِّ جهة أو تنظيم سياسي يستخدم العنف أو يدعو إليه، وهكذا، وبعد جهد طويل في التحضير والاعتماد على تبرعات أناس عاديين، انطلقت القافلة الأولى في أغسطس 2008 ونجحت في إرسال 44 ناشطاً إلى غزة، ولحقتها 3 قوافل أخرى سمحت لها إسرائيل بالعبور، لكنها منعتها بدءاً من ديسمبر 2008، إذ صدمتها سفينة حربية إسرائيلية مِمَّا اضطر سفينة الحرية إلى الوصول بأعجوبة إلى ميناء طرابلس اللبناني، ومع ذلك لم تتوقف القافلة بل استمرت حتى اعتقلت إسرائيل في يونيو 2009، 21 ناشطاً وصادرت سفينتهم. وبالتالي، فإن قافلة الحرية التي ارتكبت فيها إسرائيل المجزرة على السفينة مرمرة، هي القافلة الثامنة، ولحقتها قافلة راشيل كوري، ولا أعرف لماذا أعلن البعض أنه يسعى إلى تجهيز قافلة الحرية الثانية؟ وكعادة الأشياء عند حدوث فعل إنساني مدوٍّ يختطف أبصار الناس، يدخل السياسيون ليفسدوه، فإسرائيل، المجرم الأكبر والمنتهِك الأول لقواعد القانون الإنساني الدولي، سعت إلى تشويه أهداف الحركة، فسرّبت أشرطة فيديو مفبركة وركّبتها بطريقة سينمائية وبثّتها على "اليوتيوب"، ما لبثت أن اعتذرت عنها حين فضحتها أجهزة إعلام اسرائيلية ودولية، بل وجدناهم يركِّبون أصواتاً على الفيديو تشتم اليهود، زاعمين أنها صدرت من القافلة، مما اضطرّها إلى الاعتذار، خاصة عندما رُكِّب الفيلم على سياق تصوير قامت به مجموعة من الممثلين الإسرائيليين يظهرون فيه كعرب، كانت فضيحة انكشفت سريعاً. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وجدنا الإعلام الغربي وبالذات الصهيوني منه، يحاول تصوير تلك الجهود الإنسانية بالإرهابية، فلنأخذ مثالاً من جريدة "نيويورك بوست" الصادرة في مدينة نيويورك، وهي صحيفة صهيونية حتى النخاع، ومحاولتها ربط أحد الأشخاص العاملين في منظمة ماليزية خيرية تبرعت للقافلة، بأن له ارتباطاً بأحداث 11 سبتمبر 2001، كما جرت محاولات محمومة لربط المنظمة الخيرية التركية بالإرهاب، لإظهار قافلة الحرية على أنها قافلة مشبوهة إرهابية، وهو الموضة السائدة لاتّهام أيٍّ كان بفساد مسعاه، مع أن رئيسة حركة غزة الحرة أعلنت بشكل لا مواربة فيه، أنهم عندما وافقوا على مشاركة المنظمة التركية، أُخِذت منهم تعهدات بقبولهم وموافقتهم على مبدأ عدم العنف، وهكذا كان، ولا يوجد لدينا دليل على عدم الالتزام ذاك إلّا من خلال الفيديو الإسرائيلي المُفبرَك، وعلى هذا الأساس، فإن كل من شارك في القافلة بمن فيهم الأتراك، ورجالٌ ونساءٌ كويتيون أفاضل، إنما شاركوا فيها لأهداف إنسانية. حكاية حركة غزة الحرة ستستمر، ليس لأن القائمين عليها مناضلون يحبون الموت، ولكن لأنهم مؤمنون بحرية الإنسان وكرامته، وأن رفع الحصار عن غزة يأتي ضمن هذا الإطار، وأن حركتهم بدأت مناهضةً للعنف وستستمر، وتفيد الأخبار السارة بأن التأييد للقافلة قد تضاعف مئات المرات، وأن التبرعات قد انهمرت على الحركة، وأن هناك أربعة قباطنة بحريين تبرعوا لقيادة السفن القادمة حتى الآن. إسرائيل مرتبكة وتسعى إلى تشويه قافلة الحرية بكل وسائل الدس المعروفة، وحكوماتنا العاجزة وتنظيماتنا السياسية تريد أن تركب المركب الإنساني لتغرقه، فهناك من يريد توفير الحماية العسكرية وهناك من يريد تزويد القافلة بالأسلحة والصواريخ، وسواء كان ذلك قد صدر عن حسن نية وحماسة مشروعة، أم جاء بانتهازية مؤسفة، فإنهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون يجرِّدون قافلة الحرية من أقوى أسلحتها، وهو سلاح الإنسانية الذي لا يميز بين دين أو مِلّة أو أصل. من يرَ في نفسه قدرة على النضال العسكري ضد الاحتلال الصهيوني، فعليه أن يلتزم ذلك، وليوفقه الله في مسعاه، ولكن ليبتعد عن سفن الحرية، دعوها تسير في بحرها الإنساني ولا تغرقوها، وليرحمنا الله في الأولى وفي الآخرة.