أوباما يبعث برسالته الثانية إلى القيادة الإيرانية العليا خلال الأشهر القليلة الماضية مرفقا إياها هذه المرة بطلب لمفاوضات مباشرة على مستوى رفيع، وسولانا يستعجل عقارب الساعة ليجتمع بكبير المفاوضين الإيرانيين سعيد جليلي، ومجموعة (الـ5 +1) الغربية تهرع للتشاور حول كيفية التعاطي مع حزمة المقترحات الإيرانية الجديدة، والاجتماع الدوري لمجلس حكام الوكالة الدولية يضع من جديد إيران بنداً أولوياً على جدول أعماله رغم تقرير البرادعي الإيجابي. كل ذلك بعد أن فشلوا في أساليب الترهيب والتهديد بالخيار العسكري، ومن ثم في مخططهم «الناعم» أي المغلف بأكف مخملية لإخضاع القرار الإيراني، الأمر الذي جعلهم يذعنون من جديد لضرورة فتح أقنية الحوار المختلفة مع طهران بهدف منعها من المضي قدما في استغنائها «النووي» المحير. قديما قيل «إن الأمة التي لا تنتج غذاءها بنفسها فإنها فاقدة لا محالة قرارها المستقل»، وهو أمر البتة كان ولايزال صحيحا، ومادمنا نتحدث عن النووي ونعيش في عصره أيضا، فإن باستطاعتنا اليوم أن نضيف القول دون مبالغة إن أمة لا تصنع مفاعلاتها النووية محليا ولا تنتج وقودها النووي بأيدي علمائها أمة فاقدة قرارها المستقل لا محالة.
كيف ذلك؟! ولكن قبل ذلك دعونا نتحدث عن سر عدم التماثل بين ما بات يعرف برزمة المقترحات أو الحوافز الغربية لإيران، ورزمة المقترحات الإيرانية المقابلة من جانب إيران للغربيين. في الخلاصة المكثفة فإن الغرب يزعم أنه مستعد لتقديم كل ما تريده إيران من منشآت، وكذلك وقود نووي من أجل الحصول على الطاقة المستحصلة نوويا، مقابل أن تتوقف عن تجاربها النووية «الغامضة أو المشبوهة» في مجالي تصنيع المفاعلات والوقود النووي، وأن «تعمد» نفسها بالانخراط معنا في مكافحة الإرهاب (تستطيع أن تقرأها بقطع دعمها للمقاومات). بالمقابل فإن إيران تقول إن توقيعها وانضمامها مبكرا إلى المعاهدات الدولية بخصوص منع انتشار السلاح النووي، ووجود مراقبة دائمة معززة بمراقبة صارمة أخيرا من جانب الوكالة الدولية، أمر يرفع الغموض كما الاشتباه، وهو ما أثبتته تقارير المنظمة الدولية حتى الآن ما جعل ملفها خارج مناقشات الالتباس أو رفع القلق المزعوم، وأما فيما يتعلق ببند مكافحة الإرهاب فهذا أمر يحتاج إلى مناقشة تفصيلية يتفرع منها موضوعات مثل الأمن والدور والنفوذ، وواجب وقدرة كل طرف في تأدية حصته منفردا، ثم مجتمعا مع الآخرين، ولكن بشكل متكافئ. والآن عودة من جديد إلى السؤال الجوهري فيما يخص النووي الإيراني، لحماقة ارتكبها الغرب مع إيران أول الثورة عندما عرقل إكمال مشروع الطاقة النووية السلمية المتفق عليها مع العهد البائد أصلا، تحولت إلى «رب ضارة نافعة» وبسبب قوة إرادة غير عادية ساعد على تصليبها نوع من التحدي ودهاء نوعي وإصرار ومثابرة استثنائية «حط الحمام طار الحمام» فإذا بالغرب يستفيق على إيران وقد «وطنت» التقنية النووية العالمية، وهي في طريقها للاستغاء عنه مع الزمن منشآت ووقودا. الآن وبعد أن «بهت الذي كفر» على ماذا يلعب الغرب؟ ولماذا لا يتمكن من حسم أمره مع طهران لا حربيا ولا سلميا؟! سؤالان جوهريان وأساسيان لابد أنهما يراودان كل متتبع. ثمة لغط متعمد يتقصد الغرب إثارته بكثافة حول الملف الإيراني زاعما أنها تتجه نحو التسلح النووي، لكن فضح ذلك لأهل الاختصاص سهل جدا، كيف ذلك؟ - إيران وباعتراف الوكالة الدولية الصارم والدائم وتحت إشرافها لا تخصب اليورانيوم إلا بنسبة لا تتجاوز الخمسة في المئة، والسبب هو نوع ترتيب واصطفاف أجهزة الطرد المركزي- والأمر لا يتعلق بالعدد كما يكذب الغرب متعمدا- وبالتالي فإنها لا تنتج إلا وقودا يصلح للأغراض السلمية. - نسبة التخصيب المسموح بها سلما تصل إلى نحو عشرين في المئة، والنسبة الخطرة هي عندما تكون نحو تسعين في المئة، وهو ما لا تستطيع الوصول إليه إيران بسبب ترتيب ونوع الاصطفاف المعتمد لأجهزة الطرد المركزي. - إيران بحاجة إلى هذا الوقود ليس فقط لتجميعه من أجل تشغيل مفاعلات إنتاج الطاقة الكهربائية، بل لاستخدامه كمواد مشعة ضرورية في الصناعة والزراعة والطب، وفي الحالات الأخيرة فإن عمره المفيد لا يتجاوز الساعتين الأمر الذي يعني أنه غير قابل للاستيراد. لكن إيران وبسبب تعلل الوكالة الدولية في أداء واجباتها تجاه الدول الموقعة على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي من جهة، وحصار الغرب وضغوطه الهائلة على تلك الوكالة لمنعها من تقديم ما يلزم من معارف وعلوم وإمكانات لتنمية الطاقة النووية السلمية في إيران من جهة أخرى، فقد تمكنت ليس فقط من الوصول إلى دورة صناعة الوقود النووي المعروفة، بل من اختراق الحصارات المتعددة لتقيم مفاعل أراك الذي يعمل بالماء الثقيل رغم أنف الغرب المتعالي والمتغطرس دون أن تنقض أيا من تعهداتها تجاه الوكالة الدولية، ما جعل الغرب أمام حالة «كش مات» من العيار الثقيل. في مثل هذه الحالة لم يعد أمام الغرب المتغطرس الفاقد للذرائع إلا أن يذعن لإيران «المتعلمة» لكنها الخارجة على إرادته وسيطرته وقدرته على الإخضاع، أي المستغنية عنه بالتمام والكمال إن عاجلا أو آجلا. فماذا يمكن لواشنطن أن تعمل مع إيران المتسلحة بتقنية النووي المنتشرة على امتداد العقول والأراضي الإيرانية، وإيران المصممة على عدم الرضوخ لإرادة غير قرارها القومي المستقل، وإيران الملتزمة بقرارها الشرعي الذي يمنعها من اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل، وإيران المستعدة للشهادة من أجل الدفاع عن قرارها الوطني الإجماعي هذا، وإيران المنتشرة في أسفارها الإقليمية في الجهات الأربع من حدودها جنبا إلى جنب القوات الأميركية التي تستعد لسفر الخروج؟! ليس في الجعبة سوى محاولة الاستدراج لمفاوضات العصا والجزرة بانتظار تمرير خديعة ما، ولكن لما كان أبو موسى الأشعري لم يعد متاحا في طهران، بعد أن حسم السيد علي خامنئي خديعة «رفع المصاحف على الرماح» مبكرا، فإنه لم يبق أمام الغرب إلا اللجوء إلى سِفر التفاوض المباشر والمتكافئ مع طهران وعلى أعلى المستويات، ما يعني عمليا الرضوخ والإذعان لسِفر الاكتفاء والاستغاء النووي الإيراني. وكما قال الخليفة الرابع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الشريف: «استغن عمن شئت تكن نظيره». * الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
استغن عمن شئت تكن نظيره
14-09-2009