سيّد «التغيير» يحتاج إلى انطلاقة جديدة
يريد البيت الأبيض إخفاء النزعة الجنونية عبر الانضمام إليها... فنرى أوباما ينتقل مسرعاً من مقابلة إلى أخرى، لكن رسالته لم تعد واضحةً بالقدر الذي كانت عليه خلال حملته الانتخابية.
أمضى باراك أوباما عامه الأول في الرئاسة يكافح أزمةً بعد أزمة، وها هو اليوم يواجه أزمةً سياسية خاصةً به، إذ إن خسارته في انتخابات ماساشوسيتس تعرض للخطر إصلاحاته في نظام الرعاية الصحية، أهم مشاريعه المحلية، فهل نحن أمام أفضل رئيس أميركي ظهر في أسوأ الظروف؟ لعل التغيير الذي طرأ على طاقم الموظفين في البيت الأبيض لم يكن كبيراً، لكنه رمزي بطبيعته. لم يعد جون فافرو خيار الرئيس الأميركي باراك أوباما الأول ككاتب خطاباته، فها هو سيد التغيير يحوّل اهتمامه على نحو متزايد إلى جنود مجهولين آخرين لصياغة خطاباته.
خلال الحملة الانتخابية في عام 2008، بكت الحشود تأثراً بكلمات فافرو الصادرة على لسان أوباما الذي وعد بذلك التغيير الذي يستطيع المرء الإيمان به. لكن أحوال فافرو، هذا الشاب الحليق الرأس، تغيّرت بلا شك، فقد بدأ يواعد ممثلات بعد أن سحر الجميع في واشنطن.لكن بالرغم من أنه لايزال يتبوأ منصب كبير كتّاب الخطابات، فإنه لم يعد يحرّر أهم خطابات الرئيس، كتلك التي تتطرق مثلاً إلى كيفية التعاطي مع إيران أو الاستراتيجية الأفغانية الجديدة.وهكذا لم تعد كلمات أوباما تركّز على الأمل إنما على تفاصيل السياسة. في هذا السياق، تساءل مايكل غيرسون في مقال له نُشر أخيراً في صحيفة "واشنطن بوست": "أين خطابات أوباما الفصيحة والملهمة؟". وفي ذكرى تنصيب أوباما، بدا أن المواطنين الأميركيين سئموا هم أيضاً من الخطابات الحالمة. الواقع المزعجيرمز جون فافرو إلى التغيير السياسي الراهن في الولايات المتحدة، فقد ولّى زمن رحلات الخيال المليئة بالأمل، وعلى أوباما اليوم مواجهة واقع يومي يشكّل بالنسبة إليه اليوم مصدر إزعاج كبيراً.قد تؤدي الهزيمة الساحقة التي مُنيت بها المرشحّة الديمقراطية مارثا كواكلي في الانتخابات لشغل المقعد الشاغر في مجلس الشيوخ بعد وفاة تيد كينيدي إلى القضاء على خطّة تزويد المزيد من الأميركيين بالتأمين الصحي، أهم سياسة محلية بالنسبة إلى أوباما. واليوم سيحظى الجمهوريون بما يكفي من الأصوات لإعاقة هذه الإصلاحات.بالنسبة إلى منتقدي أوباما، يشكّل ذلك دليلاً إضافياً آخر على أفول نجمه، ويشير هؤلاء إلى تراجع شعبية الرئيس إذ تبلغ 46 في المئة فقط وإلى اختفاء القمصان القطنية التي طُبعت عليها صورة أوباما من الشوارع. هذا صحيح، لكنهم يتجاهلون واقع أن الأميركيين لم يولعوا يوماً بأوباما، فأي تحليل واقعي لنتيجة الانتخابات الرئاسية في عام 2008 يظهر انتصاراً مؤثّراً إنما غير ساحق، حفّزه انعدام شعبية الرئيس جورج بوش الابن آنذاك، والوضع الاقتصادي المتردي، وخصم جمهوري ضعيف.لكن ما أبهر الأميركيين بالفعل خلال الانتخابات كان شخص باراك أوباما، لناحية قصة نجاحه الغريبة، وطبيعة ترشحه التاريخية. بصفته أول رئيس أميركي من أصول إفريقية، لم يتحدّث أوباما فحسب عن التغيير كما سياسيين كثر سبقوه، إنما جسّده... نادراً ما اندمجت الرسالة مع الرسول إلى هذا الحد. لا وقت للتغييرلعل زمن أوباما هو الأقل ملاءمةً لإحداث تغيير حقيقي أو لكي تعالج الأمة نقاط ضعفها بوعي، ففي زمن الأزمات، تُعتبَر الأخطار المحدقة والآليات الدفاعية أهم من أي انفتاح على التغيير. ومنذ تنصيب أوباما، كان على هذا الأخير التعامل بشكل شبه حصري مع إدارة الأزمات: الأزمة المالية، وأزمة شركات صناعة السيارات، وأزمة الوظائف، وأزمة المناخ، والأزمة العالمية. لم يأت زمن قط اندلع فيه هذا الكم من الأزمات. قرّرت المعارضة في وقت باكر إعطاء ردها على المفهوم القائل إن الأوقات العصيبة تستدعي اعتماد سياسات صارمة. رفض الجمهوريون التضامن مع المواطنين الأميركيين البالغ عددهم 47 مليوناً والذين لا يملكون تأميناً صحياً. كذلك لم يتقبلوا فكرة القيام بتضحيات من أجل المناخ. وحين أُطلقت الدعوات الأسبوع الفائت إلى تقديم مساعدات لهايتي، ألمح مقدم البرامج الحوارية راش ليمباو، أحد رموز اليمين، إلى أن أوباما يريد دعم إخوانه السود. لكن عاجلاً أم آجلاً قد تطغى على الجمهوريين في النهاية حركة Tea Party، مجموعة متحررة من الناشطين اليمينيين يُعرّف أعضاؤها عن أنفسهم بالأفكار التي يعارضونها.يغدو هذا الموقف الدفاعي شائعاً أكثر فأكثر، ويؤيّد أكثر من 40 في المئة من المواطنين الأميركيين حركة Tea Party. وفي انتخابات ماساشوسيتس، تمكن الجمهوريون من تسجيل نقاط عبر شن هجوم على "الحكومة الكبيرة" والإفلاس الوطني الوشيك، وقد اتُهم اليساريون الأميركيون مجدداً بأنهم "اشتراكيون".فضلاً عن ذلك، استُخدم التهديد الإرهابي لمهاجمة الديمقراطيين، فقد سُمح لنائب الرئيس السابق ديك تشيني بالتلميح إلى أن أوباما يشكّل خطراً على الأمة. وبعد الهجوم المُحبَط في يوم عيد الميلاد على الرحلة 253، كانت صحيفة "نيويورك تايمز" نفسها تنتظر أن يتعهّد الرئيس بشن حرب في النهاية على الإرهاب. في الوقت عينه، واصل المحلّلون من اليمين واليسار معاً صب الزيت على النار. الرؤى العظيمة غير كافيةيريد البيت الأبيض إخفاء النزعة الجنونية عبر الانضمام إليها، فنرى أوباما ينتقل مسرعاً من مقابلة إلى أخرى، لكن رسالته لم تعد واضحةً بالقدر الذي كانت عليه خلال حملته الانتخابية، ففي ما يتعلق بإصلاحات نظام الرعاية الصحية، يتحدّث الرئيس في بعض الأحيان عن خفض التكاليف، وأحياناً أخرى عن الواجب الأخلاقي. أمّا في ما يخص أفغانستان، فيتحدث تارةً عن الانسحاب، وتارةً أخرى عن النصر. يواجه أوباما معوّقات تمنعه من التقدم، ورؤاه العظيمة غير كافية على ما يبدو لحكم البلاد.لكن من المبكر جداً الحديث عن فشله، فقد أحسن فريق أوباما الرد على الأزمة المالية، واستعادت صورة الولايات المتحدة في العالم اعتبارها. من جهتهم، لم يقدّم الجمهوريون بعد أي مرشّح مقنع لانتخابات عام 2010، وبعد 12 شهراً من العمل في البيت الأبيض، لا يستطيع أحد الادّعاء بأن الرئيس غير كفؤ بما يكفي لتولي زمام الرئاسة أو أنه لا يليق بمنصب رئيس. كذلك لم يضع نفسه في موقف محرج بالطريقة عينها التي أحرج بها بيل كلينتون نفسه حين ناقش أمر سرواله الداخلي مع الصحافيين بعد تنصيبه.شكّل عدم تمتّع أوباما بهالة رئاسية إحدى الحجج الرئيسة التي استُخدمت ضده خلال الحملة الانتخابية، فقد نُقل عن كلينتون قوله في كتاب جديد له بأن شخصاً مثل أوباما كان يمكن أن يقدّم له القهوة منذ بضع سنوات.منذ اليوم الأول، تصرّف أوباما وكأنه لطالما كان رئيساً، لكنه خسر الدعم بسبب ذلك. فقد اشتكى كثيرون من مؤيديه الأصغر منه سناً والذين عملوا بلا هوادة خلال حملته بأن أوباما أصبح شأنه شأن أي سياسي آخر.تحسين أدائهسيبدأ مؤيدوه على الأرجح بالاحتشاد مجدداً لدعمه في عام 2012 كحد أقصى، وذلك نظراً إلى النقص في المرشحين البدلاء، وفي جميع الأحوال، سترتفع شعبيته مجدداً حين يبدأ الاقتصاد بالتعافي.لكن من المحتمل أيضاً أن يلازم كثيرون ممن خاب ظنّهم منازلهم في الانتخابات المقبلة، بما في ذلك انتخابات منتصف الولاية في نوفمبر. قد يخلي ذلك الساحة للناخبين الغاضبين. عندئذ قد يواجه أوباما خطر التحوّل إلى رئيس ذي ولاية واحدة أطاحت به الظروف على الرغم من موهبته الفذة. هذا ويخشى أعضاء في فريق أوباما أن تنتهي مسيرة أوباما السياسية بأن يكون أفضل رئيس إنما في الزمن الخطأ.يجب أن يصبح "المخلّص" اليوم سياسياً عادياً، أي أن يتّصف بالعملانية بدل الخيال، يبني خططاً على المدى القصير وليس على المدى الطويل، ويكون أكثر شبهاً بليندون ب. جونسون منه بجون ف. كينيدي. كذلك يجب أن يظهر قيادةً أقوى ويتبنى سياسةً أكثر صرامةً، لاسيما في تعامله مع الجوقة المنشقة من رفاقه في الحزب في الكونغرس.قد يكون ذلك خبراً سيئاً بالنسبة إلى جون فافرو وخطاباته المنمّقة، إنما ساراً لسجل أوباما الرئاسي.Gregor Peter Schmitz