اليابانية بنانا يوشيموتو وكتابة الفقدان 1-2
ربما لا يعرف العالم العربي عن اليابان سوى بعدها التكنولوجي، والصناعات الدقيقة التي اشتهرت بها، من الكمبيوتر إلى الإنسان الآلي، وربما بعض أشكال اللباس التقليدي خصوصاً في الأفلام اليابانية التي عرفت شهرة كبيرة بفضل مخرجين أمثال أكيرا كيروساوا، وشوهي إيمامورا، وآخرين، أما في مجال الأدب فربما قصائد الهايكو وميشيما، وياسوناري كواباتا. وهذان الأخيران ربما كانا أشهر كاتبين تمت ترجمة أعمالهما الروائية والقصصية الى العربية، لكن في السنوات الأخيرة ظهر الكاتب الياباني هاروكي موراكامي صاحب (كافكا على الشاطئ والغابة النرويجية) وإذا كانت مسيرة الحداثة الأدبية في اليابان قد شقت طريقها منذ زمن بعيد، فإن جزءاً منها أصبح الآن أقرب الى الكلاسيكية منه إلى اجتراح عوالم اليابان في الوقت الراهن. واليابان التي نهضت من رماد الحرب الكونية الثانية، واستطاعت أن تخلق لنفسها فضاءً عالمياً مميزاً بحيث تنافس الدول الكبرى، لم تتخل عن تركيبتها التقليدية، على الأقل في جوانب ثقافية كثيرة، من الملبس إلى تقاليد السوشي، وأنواع الطعام، إلى فن الخط، وترتيب الزهور، إلى مسرح النو والكابوكي هذه العلامات في مجتمع متحرك إلى أبعد الحدود، مجتمع ذي وفرة تكنولوجية هائلة، أقول إن هذه العلامات تكاد تشكل أساساً مفارقاً له دلالات فائقة الأهمية. نحن نعرف أن اثنين من أهم كتّاب اليابان، قد أقبلا على الانتحار، ياسوناري كابواتا صاحب (سرب طيور بيضاء، وضجيج الجبل)، الذي انتحر في عام 1972، وكان قد نال جائزة نوبل للأدب، ويوكو ميشيما صاحب (اعترافات قناع، والشمس والفولاذ)، الذي انتحر بطريقة الهيراكيري، في مبنى وزارة الدفاع اليابانية، في مشهد استعراضي وبحضور الصحافة ورجال الإعلام والتلفزيون، احتجاجاً على توجه اليابان، بعيداً عن التقاليد الامبراطورية بالإضافة إلى الأبعاد النفسية، التي قيل، إن جزءاً منها يعود إلى تربيته وميوله المثلية.
أقول عدا هذه المعرفة حول اليابان الحديثة، نكاد لا نعرف شيئاً عن الأعمال الشعرية والروائية الجديدة في هذا البلد. وربما هذا ما دفع الشاعر الراحل بسام حجار إلى ترجمة عملين روائيين قصيرين للكاتبة اليابانية بنانا يوشيموتو. هذان العملان هما (مطبخ) و(خيالات ضوء القمر) قد يمنحانا فهماً، ولو محدوداً، للكتاب اليابانيين الجدد، أي فترة السبعينيات والثمانينيات، وهذه الأعمال الروائية القصيرة التي يطلق عليها في اليابان اسم (الشوسيتسو) أقرب ربما إلى مصطلح النوفيلا، أي الرواية القصيرة. لا يجد القارئ في هذين العملين، افكاراً كبيرة، أو ادعاءات فلسفية عظيمة، بل لا يجد حتى، تحولات وذروات حاسمة في البناء الروائي. إنها على الأرجح كتابة أقرب إلى البوح والحميمية. كتابة شخصية عن أفراد موزعين في المدينة الكبيرة طوكيو. كتابة ما بعد حداثية؟ ربما، ليس التاريخ ولا حركة المجتمع مهمين، إذ إنها كتابة أشبه بالأنشودة الشخصية، كتابة مقتضبة إذن، حتى ان مشاعر الشخصيات رغم مآسيها، تبدو متقشفة أيضاً. جُل ما تكتبه بنانا سوشيموتو، هو عن العزلة والموت والفقدان، أي انها تكتب عن مصائر فردية، دون أن يتحول هؤلاء الأفراد إلى أبطال بالمعنى المعهود في الرواية التقليدية. في رواية (مطبخ)، تفقد ميكاج جدتها، وهي في العشرين من عمرها، فتشعر أنها فقدت جزءاً من حياتها، وعندما تلتقي شاباً، هو يوشي، يدعوها هذا إلى الانتقال إلى منزله، لتقيم معه ومع أمه، التي تدعى أريكو. أريكو هذه الأم الفاتنة ليست سوى الأب الذي غير جنسه بعد وفاة زوجته. وهي تعمل ساقية في حانة، لكنها تموت في ما بعد في مشهد عنيف بعد اعتداء أحد الرواد الليليين عليها. كانت العلاقة بين الثلاثة في منتهى الانسجام، حتى آلَ كلُ شيء في ما بعد إلى الاضطراب. ما يجعل هذا العمل حميماً هو تهويمات ميكاج حول المطبخ، فهي تفضل النوم في المطبخ حيث الدعة والدفء، وروائح الطعام، هناك تجد نفسها مستلقية بهدوء، دون أن يتعكر مزاجها، كأنما بذلك تعود الى إلرحم. إنها فتاة وحيدة على كل حال. نحن نعرف أن الطعام في اليابان وتقاليد المطبخ، عريقة ومشدودة بفن خاص. علامة من علامات الذائقة التي تحتفي بها الحواس، فإضافة إلى لعبة الظلال والضوء المنعكسة على ألوان الطعام، (حاسة النظر)، فإن هذا المشهد يُرفع بجماليات موازية، منها حاسة الشم والمذاق والنغم. وعندما تتوافرهذه الجماليات يبدو مشهد الأكل كأنه طقس يكاد يكون روحياً، لكن رغبة ميكاج للنوم في المطبخ، تُعلّي من وحدتها وعالمها الحميم. «أحسب أنني أحب المطابخ أكثر من أي مكان في العالم. ليس مهماً عندي أين تقع أو حالاتها، ولكن المهم أن تكون أماكن لإعداد وجبات الطعام، فلا أشعر بالتعاسة فيها... إذ يبدو لي أن في هذه الخاطرة من السلوان ما يفوق اعترافي لذاتي وحيدة. حين أكون مرهقة تماماً أفكر بشيء من الابتهاج، إنني عندما تحين ساعتي أود أن ألفظ أنفاسي الأخيرة في مطبخي».ولنا عودة في الأسبوع المقبل.