أول العمود:

Ad

لا يوجد شك في حق الفرد في التعبير، لكن مراجعة ما تسطره أقلام بعض كتّاب الأعمدة لا علاقة له بتحليل رصين أو نقد موضوعي أو معلومة جديدة.

***

أكتب عن هذا الشهر مستبقا قدومه بأيام لأن شكله الاستعراضي قد بدأ منذ أيام.

فرمضان في حياتنا المعاصرة أصبح مبرمجاً لغير علة تشريعه، ولو طاف أحدنا بجولة في محركات البحث الإلكترونية لوجد الاختلاف شاسعا بين علل الصيام في الأديان والحضارات المختلفة، وعما نقوم به قبل أيام من دخول هذا الشهر الذي أصبح مبرمجا على سلوكيات منحرفة عن أصله كعبادة، فيدخل تجار الأغذية المشهد المسرحي ليكونوا نجومه، وينقلب الشهر إلى (مهرجان) كما تحب التعاونيات تسميته أيضا، وكل التحركات التي تسبقه تهدف إلى كيفية الحصول على الطعام بأرخص الأثمان، وهذا جزء من البرمجة العقلية للصائم، حيث يرتبط الشهر بالخوف من الجوع في نهاره، وفي هذا دخلت البيوت الخاصة على الخط فأصبحت مصنعا لبيع الأطعمة!

من جانب آخر، تعاد الفتاوى الدينية المرتبطة بالصيام كل سنة وكأنها معده مسبقا، حتى أن بعض المنتديات الإلكترونية خصصت نكتاً ونوادرعن صوم رمضان، وصارت فتاوى الترخيص بالإفطار تتصدر الصحف كما حدث فى العام الماضي في فتوى جواز إفطار من انقطعت عنهم الكهرباء!! وفي هذا العام برزت رخصة إفطار مرضى السكر فجاء عنوان صحافي كبير من السعودية: 6 ملايين سعودي معفون من الصوم... بعد حساب عدد المصابين بالمرض في المملكة فقط دون دول الخليج الأخرى!! (أعلى معدل للسمنة عالميا يوجد في الكويت حسب منظمة الصحة العالمية).

ظاهرة تحويل هذا المنسك الروحي إلى مادي مبتذل أصاب حتى النوافل من صلاة التراويح والقيام، فتجد البعض يتحدث عن اهتمامه بـ"الصوت الجميل" للإمام وخدمة القهوة والشاي، وربما بعض الأطعمة وتميزها في مسجد دون الآخر في المنطقة، وما أكثرها اليوم، وتسمع عن تدخل المصلين في (خلع) إمام لأنه يطيل في القيام!! والشيء المحزن هو في حمى الوجود في المسجد ليلة 27 وبشكل ملفت، وكأننا نملك عيوناً خارقة للعادة لاكتشاف ليلة القدر.

المناسبات الاجتماعية هي الأخرى تطغى وبشكل يومي على حياة الناس فى رمضان، ولا تخلو بالطبع من البذخ في صرف الطعام أو تغيير أثاث المنزل أو إعادة ترميم أجزاء منه، وكذا الاستغراق في السهر والتجوال المتواصل على الدواوين من دون طائل إلى ساعات متأخرة من الليل تؤدي أحيانا إلى إجازة مرضية، أو تغيب عن العمل، أو حضور صلاة القيام والنوم عن صلاة الفجر!

رمضان أصبح شهراً استعراضياً بمعنى الكلمة، في إعداد الطعام وصور الاستعداد للعبادات والمراءاة بها، وضعف الحديث عن فضل العمل وقضاء حاجة الناس ومطالبهم في أجهزة الدولة الخدمية، بل إن البعض يتعمد إظهار أثر الصيام على وجهه شكلا أو سلوكا كالتمارض والكسل والعصبية، وفي ذلك يروى عن المسيح عليه السلام أنه قال: "إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته وليمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس بصائم".

ليس لرمضان علاقة بالطعام إلا بالجود فيه لمحتاج كما كان يفعل النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فهي عبادة روحية عرفها الإنسان منذ غابر العصور وجاءت الأديان لتطورها وتخلصها للخالق، فهدفها التقليل من الأكل والكلام والاختلاء مع النفس... فأين نحن اليوم من هذه الأهداف؟!