في لندن يعنُّ لي أحياناً أن أذهب إلى أمسية أصغي فيها إلى محاضرة في حقل من حقول المعرفة التي تستهويني، أو أتابع محاضرات البروفيسور المختص في واحدة من هذه الكورسات التي اعتدت اقتناءها على اسطوانات "DVD".

Ad

المحاضر الغربي الذي يتدفق أمام الجمهور الواسع بالمعلومة والاجتهاد والتحليل الدقيق، دون ورقة، ودون أن يتعثر أو يتمتم داخل فراغات الصمت والحيرة في البحث عن كلمة ضائعة، هو نتاج الحضارة الحديثة التي امتدت منذ القرن السادس عشر. تُسعفه العقلانيةُ التي نمَت في أفق المعارف الحديثة، وكثافةُ المعلومة التي نمت باطراد حوله دون توقف، من محيط العائلة، إلى محيط المدرسة، المجتمع، الجامعة، إلى الصحبة العالمة التي تشبهه في توقدها. أمرٌ لا يعتمد الموهبةَ الفرديةَ وحدها.

دون هذه الحضارة، قد تطلعُ من اليباب موهبةٌ فردية. ولكن طلوع حقول معرفية مكتظة بمواهبها الطبيعية العاقلة غير ممكن دون قاعدة الحضارة الأوسع. الحضارة تملك قدرةَ وصلاحيةَ أن تُطل على شعوب الأرض، وتكتشفها، وتستوحي من ثرواتها الثقافية البسيطة الموروثة. ولكن هذه  الشعوب ستظل عاجزة عن القيام بالدور ذاته. وتحتاج لكي تتمثَل الحضارة، وتنتفع منها، إلى زمن يعتمد طوله وقصره على قدراتها الذاتية.

استعارة الفن الغربي من الفن الإفريقي عنصر حداثي. ولكنه لن يجعل من الفن الإفريقي البدائي فناً حداثياً. استعارة الفن الشعري الغربي واستيحاؤه من الشعر الصيني، الياباني، الإفريقي عنصر حداثي، ولكنه لن يقدم شهادة على أن الشعر الشرقي شعر حداثي. لأن الحداثي يعني في أبسط تعريفاته الانتساب إلى الحضارة الحديثة، التي مازالت غربية، على الرغم من قدرات اليابان الفائقة. القدرة على محاكاة عناصر الفن القديمة لدى الشعوب غير الغربية وبعثها من زاوية نظر غربية جديدة، التي توفرت للفنان والشاعر الغربي هي أحد أهم عناصر هذه الحداثة الغربية.

حين يقوم الانسان الإفريقي والشرقي، الذي يعيش خارج مدار الحداثة الغربية (العلمية، الفنية، السياسية، الاجتماعية…) بالمثل، أي حين يحاكي عناصر الفن وعناصر الإبداع الكتابي في الحداثة الغربية، مُنتزعةً من مدارها المتقدم (العلمي، الفني، السياسي، الاجتماعي…) لن يجعل منه حداثياً.

للشاعر أليوت أن يُحاكي اليوبانيشاد الهندية، وإزرا باوند الهايكو الصيني، أو بيكاسو القناعَ الإفريقي، أو كورساكوف لحناً عربياً. لكن الهندي، الصيني، الإفريقي، والعربي لا يملكون أن يحاكوا الأرض الخراب، والجورنيكا، أو شهرزاد. ويحدث هذا لا بفعل التسلط والاستحواذ الغربي الاستعماري الاستشراقي، كما يُشاع عادة في ثقافتنا المُسيَّسة. بل بفعل القدرات الفائقة التي يتمتع بها المثقف الغربي عبر القرون الستة للتطور المذهل في الكف عن موروثنا وأسرارنا الروحية.

العلة كامنة في أن هذه الحضارة الغربية المتقدمة بصورة استثنائية، لا يُمكن أن تُحاكى، بل يمكن أن يُنتفع منها كما ينتفع الطالب في غرفة الدرس. هناك فاصل هائل في حقل المعرفة، وحقل الحياة بين الاثنين. ولكن هذا الفاصل قد يبدو ضيّقاً، أو متلاشياً بفعل إيهام النفس. وقارئ الكتب من مبدعي الأدب في مجتمعنا الثالث هو أكثر المرشحين قدرة على إيهام النفس، وإيهام الآخر!

طالبُ المعرفة العلمية والتقنية لدينا يملك أن يُقاوم هذا الدافع الإيهامي، لأن لغة العلم وسيط بارد غير عاطفي، ولا مجال للمجازات فيه. ولأن الدقة في هذه اللغة هي عماد حياة الإنسان أو موته. ولكن طالبَ المعرفة الأدبية لا يهاب تجاوز اللغة كوسيلة إيصال، ويعتمد عاطفته ومخيلته، وأهواءه الفردية. فهو المؤهّل الأول لإيهام النفس، وإيهام الآخر. ولذلك من الممكن أن يتوافر لدينا أساتذة نافعون في حقل العلم البحت، وعلوم التاريخ والسياسة والاجتماع. ولكن الأمر يبدو عسيراً في حقل الفن، والأدب، والشعر خاصة، والنقد. لأن هؤلاء وحدهم من يجرؤون على تجاوز الواقع الاجتماعي، والتاريخي، واعتلاء حصان الوهم الذي تيًسره القاعدة الفردية. ولذلك من الصعب أن تقع على طبيب أو عالم فضاء يقول لك: "نحن الأطباء، أو علماء الفضاء العرب لا نختلف في الإحاطة العلمية والتقنية عن أطباء الغرب، أو علماء فضائه." ولكن من اليسير أن تقع على شاعر أو ناقد شعر يقول، دون رفة جفن: "شاعرنا أو ناقدنا العربي لا يقل حداثة شعرية، أو حداثة نقدية عن شاعر وناقد الغرب". ثم يرشقك بقصيدة النثر أو مصطلحات البنيوية والتفكيكية كدليل!

في الفن والشعر لا تشكل الحداثة (الغربية) معيار قيمة. هناك شعر جيد وشعر رديء.