ابن باز و اباحة الغناء
كان الشيخ عبدالعزيز بن باز يضع الأمور في إطارها الصحيح دون أن يجرح الشخص الذي يختلف معه، أو يدعو لمعاقبته لمجرد أن فتواه لا تعجبه، وسامح الله الكثير من المشايخ والدعاة الذين عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة. أزعجونا... قلبوا رؤوسنا... أكدوا لنا أنه لو كان الشيخ عبدالعزيز بن باز- رحمه الله- على قيد الحياة لما صدرت فتوى إباحة الغناء، بل إن أحد المشايخ أكد أن الشيخ ابن باز كان سيطالب بقطع لسان صاحبها وحبسه، والكثيرون منا صدقوا هذا الأمر رغم غرابته لكثرة ما ردده خصوم الكلباني، ولكن هل تعرفون ما الذي فعله الشيخ بن عبدالعزيز بن باز حين كتب الشيخ أبو تراب الظاهري- رحمه الله– مقالا مثيراً يؤكد فيه أن الغناء مباح شرعا؟! لقد رد عليه بمقال في المجلة ذاتها!
تخيلوا لم يطالب بقطع لسانه، ولم يأمر بسجنه، ولم يطالب بالحجر عليه أو يفتي بعدم جواز الصلاة خلفه، كما يفعل خصوم الشيخ عادل الكلباني هذه الأيام، فقط رد على المقال بمقال يوضح فيه الأمر، وكفى الله المؤمنين القتال.يوم الأربعاء الماضي نشرت جريدة «الرياض» الحلقة الأولى من بحث مهم للدكتور عثمان الصيني تحت عنوان «سجال حكم الغناء دائري أم تصاعدي» استعرض فيه تاريخ المساجلات الفقهية حول إباحة الغناء في السعودية، والتي تمتد جذورها لعشرات السنين، ما يعني أن هذه المساجلات ليست شطحة من شطحات عصرنا هذا كما يروج الكثيرون، فالكلباني لم يكن أول شيخ سعودي يفتي بأن الغناء مباح شرعا، ولا أظنه سيكون الأخير. وقد ذكر الصيني أن الشيخ أبوتراب الظاهري نشر مقالا في مجلة «الرائد» عام 1381 هجرية، أي قبل خمسين عاما تحت عنوان «الكتاب والسنّة لم يحرما الغناء ولا استعمال المعازف والمزامير والاستماع إليها»، وقد رد عليه مجموعة من علماء الحجاز ونجد، ونشرت أغلب الردود في «عكاظ» و»الندوة»، لكن الشيخ ابن باز فضل الالتزام بالقواعد الإعلامية المتعارف عليها، حيث نشر رده في المجلة ذاتها التي نشرت المقال الأساسي «الرائد»، وقد جاء الرد تحت عنوان: «الأدلة من الكتاب والسنّة تحرم الأغاني والملاهي وتحذر منها»، ركز خلاله على موضوع النقاش، ولم يحاول أبدا تجريح شخص أبوتراب، بعكس ما فعله بعض العلماء الآخرين (بعضهم كان يسمي «أبو تراب» أبا طين وآخرون وصفوه بالمتصابي).وما هو أهم من ذلك أن الشيخ ابن باز الذي بدأ مقاله ذاك باستغرابه من جرأة «أبوتراب» الشديدة على القول بتضعيف الأحاديث التي تحرم الغناء وتأويل الآيات في غير تأويلها، ولم يطالب أبدا بقطع لسانه أو سجنه أو الحجر عليه أو إرساله إلى سوق الخضار، ولم يصفه بأنه مجاهر بالمعصية لا تجوز الصلاة خلفه مثلما فعل خصوم الكلباني في زمننا هذا.رحم الله الشيخ عبدالعزيز بن باز، فقد كان عالما جليلا يضع الأمور في إطارها الصحيح دون أن يجرح الشخص الذي يختلف معه، أو يدعو لمعاقبته لمجرد أن فتواه لا تعجبه، وسامح الله الكثير من المشايخ والدعاة الذين أخذهم الغضب بعيدا، أو أنهم عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة، فلجؤوا إلى استحضار صورة غير حقيقية للشيخ ابن باز لا تتناسب مع تاريخه الذي اتسم بالوقار والحكمة والثقة بالنفس.* كاتب سعودي