لم تكن نتائج الانتخابات المشكوك في تزويرها سبباً رئيساً في اندلاع الثورة الخضراء في إيران، ولكنها كانت صنيعة سنوات من الاستبداد الديني والجمود والانغلاق، أدت إلى غليان المجتمع ومن ثم انفجاره، فقد حاول الإصلاحيون إحداث تغيير سياسي إصلاحي حين تولى محمد خاتمي الرئاسة في 1997، إلا أنه باء بالفشل لاصطدامه بصلاحيات ولي الفقيه المطلقة، لذا يئست فئات الطبقة الوسطى من الشباب وعزفت عن المشاركة في الانتخابات بعد أن عجز الإصلاحيون في وجه الحكم المطلق الذي أوهم الناس أنه يمارس الديمقراطية بشرعية دينية لثلاثين سنة.

Ad

ولم يزد ذلك الأمر إلا سوءاً حيث وصل أحمدي نجاد وفكره الأصولي، لينكشف الوجه الحقيقي للديمقراطية الملفقة (تماماً كالتجارب الأخرى التي وظفت الدين في السياسة)، حيث حورب الإصلاحيون وقمع الإعلاميون وسيطر المحافظون على القضاء والأجهزة الأمنية، فساهموا في إفشال مشروع بناء الدولة الدينية «الأخلاقية» (كما يزعمون)، تلك الدولة الدينية التي بدأت بإعدام وتصفية أي معارضة حتى تلك التي ساهمت في الثورة على الشاه من الليبراليين والمعتدلين، وفرضت فصل الجنسين في المدارس، وألزمت بالزي الإسلامي على المسلمات وغير المسلمات، كما أسست مكتب «نشر الفضيلة ومنع الرذيلة» لتنتشر مكانها المخدرات ويسود الفساد وتهدر الأموال. وتجلت مظاهر فشل الدولة في الأحداث القمعية الأخيرة لتظاهرات الحركة الخضراء التي بدأت سلمية لتواجه عنفا دمويا أسقط الكثير من القتلى والجرحى.

لقد كان للمثقفين الإيرانيين دور حيوي في الحراك الفكري الذي دفع إلى الحراك السياسي، وانضمت إليهم فئات من داخل المؤسسة الدينية نفسها، تدعو إلى الإصلاح السياسي السلمي من خلال التجديد الفكري والفقهي ومراجعة مفهوم ولاية الفقيه (التي يختلف عليها الكثير من المراجع الشيعية)، وطالبت بالحريات ونادت بضرورة انتخاب المرشد الأعلى وتحديد مدة ولايته لتجنيب البلد ويلات سلطة الكهنوت وعقيدة الوصايا وعصمة الأولياء التي عمقت التطرف والطائفية المقيتة في المنطقة، وأشغلت الداخل وانشغلت عنه بحروبها الخارجية.

ذلك الصراع الفكري السياسي الداخلي أشعله مفكرون أشهرهم الفيلسوف الإيراني عبدالكريم سروش، المقيم في أميركا والمتخصص في فلسفة المعرفة، الذي تعتبره السلطة منحرفاً عن جادة الإسلام ومحرضاً للانقلاب على الثورة الإسلامية في إيران لتراجعه عن أفكاره فيما يتعلق بالدولة الإسلامية، ودعوته «لليبرالية متصالحة مع الدين العقلي/ الحر غير الرسمي، بمقدار مناهضتها للدين الرسمي الإجباري».

يدعو سروش إلى التمييز بين الدين والمعرفة الدينية، فالأول ثابت والآخر نسبي متحول حسب فهمنا للدين، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «القرآن حمال أوجه»، فهو فهم متعدد ومتنوع، بالإضافة إلى أنه فهم بشري قابل للصواب والخطأ، فزعم احتكار التفسير الصحيح الكامل يشكل خطراً كبيراً على الدين نفسه. لذا تشكلت نظرية سروش على أساس معرفي، يقول إن حدوث أي تطور في أحد مصادر المعرفة الإنسانية، مثل البيولوجيا والأنثروبولوجيا والفلسفة وغيرها، هو تطور مترابط ومتكامل في المعارف جميعها، وبما أن المعارف الدينية (وليس الدين) هي معارف إنسانية متحولة، فهي تتطور بتطور العلوم الأخرى.

فنستنتج هنا، أن تطور مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان تستدعي تطوراً وتغييراً في مفهوم الدولة الدينية الدكتاتورية وولاية الفقيه، فنزع إرادة الإنسان وجعله قاصراً تحت حكم الوصايا يتعارض مع مفاهيم حقوق الإنسان وحق الاختيار والحرية الفردية والجماعية، كما أن الاستبداد الديني يتناقض مع الديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون التي يتساوى فيها الجميع دون حكر الحق الإلهي المطلق في بشر غير معصومين من الخطأ.

فتطور الديمقراطية أو «القيادة الشعبية» وهي الترجمة الحرفية لـ»مردم سلاري» بالفارسية مرهون بتطور المعرفة الدينية والعكس صحيح.