سينما الشاغل الفلسفي
السينما تحتل مساحةً من متابعتي الثقافية، بالتأكيد، ولكن حكايتي معها أكثر تعقيداً من الكتاب، والعمل الموسيقي، واللوحة، جاذبيتها لا تعتمدُ أركانَ الفن السينمائي، بل قدرة هذه الأركان على أن توصلَ لي ما يوصلُه الكتابُ، والموسيقى، واللوحة من مادة جدية، تُشغل العقل والقلب معاً، وهذا يعني أن أكثر الأفلام نجاحاً، لا في شباك التذاكر وحده، بل في تقنية العدسة والإضاءة، ومهارة الإخراج، وكسب الجوائز، لا تشكل حافزاً كافياً لصرف ساعتين أو أكثر في الصالة المعتمة.
ولكن وفرة السينما وافرة، ومفاجآتها لا تنقطع، ولأني أحرص على صحبة الكتاب، وأنا أذهب إلى اللوحة، أو العمل الموسيقي، صرت أحرص عليه وأنا أذهب إلى الفيلم المنتخب، فالقراءة تمنحني المفاتيح اللازمة لإدراك ما خفي عني من أسرار هذه الأعمال الإبداعية، وكم لدى المبدع الجدي من أسرار!في أواخر الثمانينيات تطلعت الفلسفةُ إلى فن السينما، وشغلت نفسها به، لينشأ فرعٌ منها داخل الاهتمامات الأكاديمية: فلسفة السينما، واليوم تتزاحم المجلات، الكتب، وفروع الاختصاص، ومواقع الإنترنت، في هذا النشاط الفتي، الذي ثبّت فن السينما كمصدر من مصادر المعرفة العقلية.هذه الموجة المعرفية وفرت الكتاب الذي أطمع فيه، في قراءة السينما عن قرب، كما اعتدت أن أقرأ اللوحة، والعمل الموسيقي عن قرب، فالأفلام التي رأيتها، والتي أطمع في رؤيتها، عادة ما تطرح أسئلةً، شأن القصيدة، دون أن تنتظر إجابة عاجلة، أسئلة بشأن مسرات الإنسان ومحنه، مبدئه ومنتهاه، رغائبه الملحة بين الضرورة والإمكان. وإذ تخرج منها، تخرج من بحران مشاعر وأفكار بالغة الغموض، لكنها بالغة الغنى والارتواء، أفلامٌ تُشعرني وكأني انتهيت تواً من تجربة حيةٍ، لا مجال فيها للوهم، أو الخديعة، بالمعنى الذي كانت تغذّينا فيها أفلام أيام المراهقة، والشباب المبكر. أشعر بهذا مع رينوار، فِسكونتي، أنطونيوني، ساتياجيت رَيْ، بونويل، ستانلي كوبرك، واجدا، هيرزوك، تراكوفسكي، سوكوروف... على أن السويدي إنغمار بيرغمان (1918-2007)، يظل في طليعة هؤلاء. وفّرت أكثرَ أفلامه بين يدي، والذي أفتقده أعثر عليه في قنوات الإنترنت.بيرغمان واضح الجاذبية لتأملات الفلسفة، أفلامه تلحُّ على طرح المأزق الإنساني، فهذا النص، الذي يرد على لسان واحدة من أبطاله، في فيلم «بيرسونا»، لابد أن يلاحق المشاهد الجدي: «كلّ استثارة نحملها داخلنا، كل أحلامنا، كل العنف الغامض، وخوفنا من الفناء، كلّ البصيرة المخيفة في شرطنا الأرضي، كلها تُسهم في إزالةِ أملنا في الخلاص في العالم الآخر. عواء إيماننا، وشكنا، في وجه العتمة والصمت، ليعتبر واحداً من أكثر الأدلة فظاعةً، على مدى الهجران الذي نحن فيه، وعلى معرفتنا المذعورة والمكتومة بذلك».شواهد، ومعالجات كهذه، تُحفز أكثر من دافع لنشأة «فلسفة السينما». ومنذ التسعينيات صدرت مجلات ومواقع في هذا الحقل، وكان لبيرغمان حصة الأسد فيها، دون شك. آخرها صدر عن دار أُكسفورد:Cinema, Philosophy, Bergman، للبرفيسور لِفِنغستون. ولقد منحتني قراءتُه سبيلاً لإعادة قراءة أفلامه، التي أعتبرها أساسية: «بيرسونا»، «الفراولة البرية»، «الختم السابع». على أنها طمّعتني بإعادة النظر في أفلام لا تقل غنى مثل: «الساحر»، «سوناتا الخريف»، «ضوء الشتاء»، «ربيع العذراء».لون الموت الرمادي هو الأكثر شيوعاً في أفلامه. حضور حقيقة الموت عادة ما ترتبط بمعنى الحياة ذاتها، وإذا ما كان الإيمان الديني في العصر الراهن ممكن التطبيق، وإذا ما كان الحب الرومانتيكي حقيقة واقعة!لم يكن من عادة بيرغمان التعليق على أفلامه، لكن الكتاب يلتقط أثراً من فيلسوف فنلندي يُدعى كايلا، تتمركز فكرته على أن «الرغبة» الداخلية لدى الإنسان لا يمكن السيطرة عليها، وهي التي تُشكل حياة الشخص ضد كلّ خبرته ومعرفته، إلى جانب أن هناك أكثر من ملمح للتساؤلات «الوجودية» بشأن الموت، وخلو الحياة من المعنى، وجحيم الآخرين، ومواجهة العبث واللامعقول... الخ