هذه قصة حقيقية جرت أحداثها في أثناء الحرب العالمية الثانية، بطلها رسالة لم تصل لصاحبها، لكنها بقيت خالدة في وجدان الكثيرين ممن لم ترسل لهم، القصة وجدتها منشورة في عدد قديم جدا من مجلة "التايم"، أنقلها لكم هنا مختصرة وبتصرف:

Ad

كانت "ماريا" قد عظم ما في بطنها حين استولى الألمان على قريتها الصغيرة في يوغسلافيا إبان الحرب العالمية الثانية، وكان زوجها الشاب "بطرس" قد فرّ ليلتحق بعصبة اليوغسلافيين الوطنيين المناضلين، ليقتل بعد ذلك بأسابيع على أيدي الجنود الألمان، لكنه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أخرج قلما كتب به رسالة إلى ولده الذي كان لايزال في بطن أمه جنينا، ليكون آخر ما يقوم به من عمل قبل أن يموت، ولفرط حبه وشوقه لهذا الطفل المنتظر الذي سيحول الموت دون فرحه برؤيته يكبر أمام ناظريه ليهتم به ويربيه تربية تجعل منه إنسانا صالحا كما يحب ويتمنى.

وقد تناقل الناس من بعده رسالته هذه حتى صارت مما يروى ويؤثر من الأدب الشعبي اليوغسلافي، وفيها يقول:

(أي بني... يا من ترقد الآن في الظلام تستجمع طاقتك لجهد الولادة، أريدك أن تعلم أنني أتمنى لك الخير دائما ويلهج لساني بالدعاء لك عدد أنفاسي الباقية قبل الموت، وأنه متى آن أوان ظهورك، فستكن قد أوتيت قوة عظيمة تجاهد بها في سبيل أن ترى النور وتتنشق الهواء، وهذا هو ميراثك وميراث كل ابن آدم، أن يجاهد طلبا للنور والهواء، وأن يصبر ويتجلد، فلا انطفأت شعلة تصفي وتصقل معدن شبابك الوضاء، ولتبق دائما مشتعلة في قلبك وروحك، حتى تصير كالنار العالية الضياء على طريق موحش، يحمدها، ويأنس بها كل عابر سبيل.

واعلم بني... أنك ستؤتى وأنت طفل صغير روح التطلع والمغامرة والتحدي والرغبة في المعرفة، وتلك بني... آية الخلود لكل إنسان عظيم، أدام الله عليك ذلك، وأسكن قلبك كل مرعى أخضر يلي الصحراء، وكل فجر يظهر من وراء البحر، وكل نور يضيء الظلام، وليكن سعيك وكدحك دوما بنقاء سريرة، وبشجاعة عالية في هذا العالم الغاضب الذي يكاد الناس أن يموتوا فيه من القهر والظلم وشظف العيش.

لكنني رغم كل شيء، أريدك بني أن تحتفظ بحبك للحياة مهما اكفهرت في وجهك، وأن تطرح عنك الرغبة في الموت، فلابد للحياة أن تُحب لأنها منحة إلهية، لكن لا ينبغي للمرء أن يغرق ويسرف بحبها ويتحول عبدا لملذاتها، وأوصيك بأن تحافظ على صداقاتك وأن تكون وفيا لأصدقائك، لكن قبل ذلك... عليك أن تعرف كيف تنتقي هؤلاء الأصدقاء، فبعضهم أشد عداوة من أعدى الأعداء.

ووفر بني دائما موجدتك وقلة تسامحك، لتدخرهما لما يقول لك قلبك إنه شر خالص، ولا تدع شعورك يفتر بكل ما هو عظيم وجليل كالشمس، والرعد، والمطر، والنجوم، والرياح، والبحر، والشجر، وبطولة الأبطال، ولتكن دائما حريصا على الصدق، مبغضا للكذب، أكثر قدرة على التسامح ممن أخطؤوا بحقك قبل أن تسخط وترغب في الانتقام منهم.

والآن... بني الحبيب، لا مفر لي من الموت، وأنه ليخجلني... أن أخلف لك ورائي عالما مضطربا تتنازعه الكراهية والبغضاء، غير أنه لا حيلة لي بذلك، واعلم حبيبي الصغير... أنني وإن كنت بعيدا عنك، لكنني ألثم جبينك كل مساء، وكل صباح، داعيا أن يكون فجرك دوما وضاحا... المخلص "بطرس").

بعد أن انتهى "بطرس" من كتابة الرسالة بساعات قليلة، مات تاركا خلفه زوجته وطفله الذي يرقد في بطنها، فلما كرت عصبة الوطنيين إلى قريته وجدت أن "ماريا" قد قتلت قبل أن تضع طفلها ببضعة أيام، وصارت رسالته التي لم يتسن لزملائه أن يسلموها إلى طفله، رسالة لكل طفل لم يولد بعد في هذا العالم الكبير، الذي جن جنونه في تلك الأيام البعيدة... ولايزال كذلك حتى اليوم!