والده ملك الكوكايين... خوان بابلو إسكوبار يطلب السماح

نشر في 10-12-2009 | 00:00
آخر تحديث 10-12-2009 | 00:00
ما زال الماضي كله محفوظاً في علب قديمة رطبة داخل خزانة صغيرة: ألبومات صور مكدسة بعضها فوق بعض ومليئة بصور أب، رجل صنفته مجلة {فوربس} ذات مرة سابع أغنى رجل في العالم، إذ بلغت ثروته الشخصية ثلاثة مليارات دولار على أقل تقدير.

في عدد من الصور المبرغلة، يقف هذا الرجل إلى جانب سيارة سباق من نوع {رينو} كان يملكها في وطنه الأم، كولومبيا، أو يستمتع بهواية أخرى، محلقاً بطائرة صغيرة في فلوريدا. ثم نرى صورة له مع ابنه خارج البيت الأبيض خلال إحدى العطل في ثمانينات القرن العشرين. في هذه الصورة، يظهر صبي يشع ذكاء مع والده الذي يحاول منعه من الحراك. وفي سائر صور العائلة، يبدو الأب محباً وعطوفاً في تعامله مع ولده الذي كان أصغر من أن يدرك الحقيقة المريعة.

بات هذا الصبي اليوم رجلاً. وواجه علانية في وثائقي جديد مدته 94 دقيقة العنف والكره اللذين ولّدهما أبوه في كولومبيا. ولا شك في أن هذه خطوة بالغة الأهمية. فالأب بابلو إسكوبار، كان محور كارتيل مادلين وساهم في عمليات تهريب الكوكايين إلى الولايات المتحدة، ما أدّى إلى حرب شاملة معها كادت تقوض الحكومة الكولومبية.

يُعتبر هذا الوالد الشر بعينه في عصر تفشى فيه الشر. فقد صُنّف أحد أخطر مجرمي العالم، إذ قتل آلاف الأشخاص. وأعلن عن تقديم جائزة لمن يقتل رجال الشرطة، متسبباً بموت المئات منهم. حتى أنه فجّر طائرة ركاب ومقر الاستخبارات الكولومبية وإحدى صُحف بوغوتا. وأمر أيضاً باغتيال مرشح للرئاسة وعدد من السياسيين البارزين. كذلك عمل كامل سائقي سيارات الأجرة في مادلين مخبرين لديه في مرحلة ما. لذلك لا يمكن لأي مجرم أن يضاهيه، غير مجرمي عالم الخيال.

أما ابنه، خوان بابلو إسكوبار، فبات يُعرف اليوم بسيباستين ماروكين، اسم اختاره عشوائياً من دليل هاتف بوغوتا حين كان هارباً من خصوم والده. صار ماروكين اليوم في الثانية والثلاثين، وهو متزوج بامرأة عرفها منذ طفولته. يقيم في شقة صغيرة في مبنى مرتفع في بوينس آيرس يطل على منظر دلتا ريو ديلا بلاتا الخلاب في البعيد. كذلك يبدو مستقبله واعداً في عالم الهندسة. فقد عُهدت إليه مهمة تنفيذ تصاميم لمشاريع ضخمة في المقاطعات الأبرز في عاصمة الأرجنتين. كان باستطاعة ماروكين الاستمرار في إخفاء هويته الحقيقية، سرّ طبع حياته منذ عام 1994. قبل سنة، قتل رجال الشرطة والده على أحد أسطح مدينة مادلين. فاضطر، وكان آنذاك في السابعة عشرة، إلى الفرار من كولومبيا برفقة أمه وشقيقته. لكن ماروكين، الذي يشبه ببدانته وشعره الأجعد والده، يقول إنه يشعر بحزن كبير.

يوضح في ثلاث مقابلات طويلة أجريت معه في الأرجنتين أنه أراد التكفير عن إرث والده والمساهمة في إحلال السلام في موطنه، الذي ما زال يعاني الاضطرابات. يذكر: {أظن أن عليك الإيمان بما هو أكبر من حياتك وأسمى. أُقدم على هذه الخطوة وكلي اقتناع أنني بذلك أساهم في بناء مستقبل أفضل لبلدي. وهكذا يدرك الجيل الجديد أن من الخطأ السير على درب العنف}.

عندما اقترب منه المخرج الأرجنتيني نيكولاس إنتل وطلب منه إخبار قصته علانية للمرة الأولى بغية التواصل مع عائلات ضحايا والده، قبل ماروكين.

بدأ بكتابة رسائل إلى أبناء سياسييَن كولومبيين بارزين صفاهما رجال إسكوبار. ونتيجة عمليتي الاغتيال هاتين (اغتيال المناضلين المصلحين وزير العدل رودريغو لارا بونيلا في عام 1984 والمرشح الرئاسي لويس كارلوس غالان في عام 1989)، اعتُبر إسكوبار خطراً كبيراً يهدد استقرار كولومبيا. حتى أن الولايات المتحدة سمحت باستخدام وحدة دلتا ووكالة الاستخبارات المركزية لملاحقته.

كتب ماروكين في إحدى رسائله: {لم أشعر يوماً بخوف مماثل من كتابة الرسائل. فكيف أكتب إلى عائلة أذاها والدي إلى هذا الحد؟... أيمكنني أن أطلب منها السماح من دون أن أسيء إليها؟}. أدت هذه الرسائل إلى لقاء مؤثر بين أولاد هذه الشخصيات الثلاث، فضلاً عن فيلم وثائقي أذهل كولومبيا.

أُطلق فيلم Sins of My Father على نطاق عالمي في مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية. كذلك عُرض في 20 صالة في ثلاث من كبرى مدن كولومبيا في العاشر من ديسمبر الفائت. ومن المتوقع أن يبدأ عرضه في الولايات المتحدة في مهرجان {ساندانس} للأفلام في يناير المقبل.

تدور أحداث الفيلم حول قصة شاب صغير ترعرع في ظل أب مجرم. غير أن إنتل يستغل سعي هذا الشاب لطرد أشباح ماضيه ليتطرق إلى ما عجز الكولومبيون عن تحقيقه خلال صراع داخلي عمره أكثر من نصف قرن: المصالحة.

يبدو هذا الصراع بالنسبة إلى الكولومبيين صراعاً بسيطاً واضح المعالم بين الخير والشر، بين عصابات المخدرات والحكومات المنهكة المدعومة من الولايات المتحدة. لكن جوهره (يشمل ثواراً ماركسيين وفرق موت شبه عسكرية وقوى إقليمية خفية) يتمثل في السعي إلى الحصول على السلطة بأي ثمن. وعلى رغم أن الكوكايين يؤجج العنف، يبقى الكره والانتقام، اللذان يتجليان بوضوح في عمليات الانتقام التي لا تعد ولا تحصى، العقبة الأساس أمام السلام.

يذكر إنتل (34 عاماً)، الذي يعيش في نيويورك: {كولومبيا بلد تدوم فيه حلقات العنف على مدى أجيال}. لذلك هدفت رؤيته هذه إلى جمع ماروكين مع أبناء السياسييَن المغتالَين، على أمل كسر هذه الحلقات. وتبيّن له أن ذلك ليس بالأمر السهل. فمن جهة، خشي ماروكين العودة إلى بلد هرب منه حين كان في السابعة عشرة لأن حياته كانت مهددة. ومن جهة أخرى، يحاول أبناء غالان الضغط على السلطات القضائية لمواصلة التحقيق في جريمة قتل والدهم. لذلك كان همهم الأكبر عدم تعريض التحقيق لأي خطر. كذلك يبذلون هم وابن لارا بونيلا جهداً كبيراً للحفاظ على ذكرى والدَيهم.

كان غالان خطيباً ماهراً وبدا آنذاك الأوفر حظاً للوصول إلى سدة الرئاسة. أما لارا بونيلا فهو أول مَن تحدى إسكوبار. ويتذكر الناس هذين الرجلين بصفتهما قائدي {الليبرالية الجديدة}، حركة سياسية مغمورة وعدت بإصلاح دولة يكبلها الفساد. صحيح أن إسكوبار أمر بقتل غالان، لكن هذه الجريمة حدثت، حسبما يُعتقد، بإيعاز من سياسيين خشوا إصلاحات اقترحتها الليبرالية الجديدة: سياسيون لا يزالون طليقين.

يخبر إنتل: {كانت محاولة جمعهم معاً دافعي لإعداد الفيلم. لم يظن أحد أن ذلك ممكن. أولاً، رفض سيباستين رفضاً قاطعاً العودة إلى كولومبيا. وثانياً، أيمكنك أن تتخيل سيناتوراً كولومبياً شاباً يقول: نعم، سأذهب وأقابل ابن الرجل الذي اغتال أبي؟}.

يوضح رودريغو لارا ريستريبو وخوان مانويل غالان في مقابلات أجريت معهما في بوغوتا أن رسالة ماروكين أقنعتهم بالإقدام على هذه الخطوة. يذكر لارا ريستريبو (34 عاماً)، سيناتور حالي: {بدت رسالته أشبه بعمل إنساني. وفكرنا في أن علينا الرد عليها بعمل إنساني مماثل}.

بدوره يقول خوان مانويل غالان (37 عاماً)، سناتور أيضاً، إنه وإخوته رأوا في الرسالة برهاناً على أن ماروكين لم يرث عقل إسكوبار الإجرامي. ويضيف موضحاً: {تمكن ابنه من إعادة بناء حياته بطريقة شرعية. وهذا في نظرنا إنجاز يستحق الثناء}.

كان لارا ريستريبو أول مَن تجاوب مع رسالة ماروكين. فسافر إلى الأرجنتين للقائه، ثم قدِم ماروكين إلى بوغوتا في سبتمبر (أيلول) عام 2008. ويبدو خلال اللقاء، الذي صُوّر في أحد الفنادق، متوتراً جداً.

يتحدث ببطء وبصوت ناعم، قائلاً: {أود أن أخبر خوان مانويل والجميع بأنني شديد الأسف حيال ما عانته عائلتكم وعائلة رودريغو من عنف وألم. جئت إلى هنا لأطلب السماح وأنا أنظر إلى عيونكم، عيني كل منكم، لأن هذه برأيي الطريقة الفضلى لفعل ذلك}.

شكر الشبان ماروكين على بادرته هذه وأوضحوا له ألا سبب يدفعه إلى طلب السماح. وقال له كارلوس غالان (32 عاماً)، عضو في مجلس مدينة بوغوتا: {كنا جميعاً ضحايا تهريب المخدرات. وأنت أيضاً ضحية}.

لا تزال كولومبيا تعاني حرب ميليشيات بين مجموعات لديها ميول ماركسية وجيش تدعمه الولايات المتحدة.

لكن كولومبيا عملت أخيراً على نزع سلاح آلاف المجموعات شبه العسكرية التي تهرّب الكوكايين وساهم إسكوبار في تأسيسها. هكذا تجدد الأمل في أن يكون البلد عبر منعطفاً جديداً. إلا أن هذا العملية لم تكن كاملة، إذ تعاود مجموعات من المقاتلين التسلّح. كذلك أخفق تحقيق في جرائم المجموعات شبه العسكرية عُلقت عليه آمال كثيرة في الكشف عن هوية القوى الكامنة وراء فرق الموت.

على رغم ذلك، ساعدت هذه العملية المحققين في معرفة أن المجموعات شبه العسكرية قتلت أكثر من 24 ألف شخص. كذلك ألقت الضوء على علاقة جمعت عشرات أعضاء الكونغرس والمسؤولين العسكريين بقادة هذه المجموعات. ينتقد لارا ريستريبو وآل غالان هذه العيوب والشوائب، مؤكدين أن على الكولومبيين القبول بالمصالحة من دون التخلي عن العدالة. يوضح لارا ريستريبو: {هذا هدفنا الرئيس: حض الكولومبيين على إيجاد السبيل إلى المصالحة. ونقول لهم أيضاً: المصالحة لا تُلغي العدالة أو الحقيقة. ونحن نريدهما كلتيهما}.

على نحو مماثل، يريد ماروكين أن يخدم لقاؤه بلارا ريستريبو وآلا غالان، كنموذج، السلام، مع أن فلسفته مختلفة. يذكر: {السلام أهم من العدالة في رأيي. فمن دونه، لا يمكنك بناء أي شيء}.

حاول ماروكين جاهداً إقناع أحد الزوار بصدقه. وفي بعد ظهر أحد الأيام المشمسة، جلس في مقهى وعلى الطاولة أمامه قصة حياة غاندي. وراح يخبر واضعاً يده على الكتاب: {تعلمنا أن نكره الخطايا لا المخطئ، كما قال هذا الرجل العظيم. كره والدي حياته كلها، ما تسبب بسقوطه}.

يوضح ماروكين أنه عاجز عن محو ذلك الماضي المريع، حتى أنه لا يحاول ذلك. وتعج المكتبة في شقته بصور أبيه وبأعمال عنه كتبها مؤلفون أمثال غابريال غارسيا ماكيز وفرجينيا باييخو، إحدى عشيقات إسكوبار: {لم ولن أتنازل عن حقي في أن أحب أبي}. فالوحش الذي عرفه العالم، على حد قوله، كان أباً محباً وحنوناً له ولشقيقته مانويلا (24 عاماً اليوم، وطالبة في بوينس آيرس).

ما زال ماروكين يتذكر بوضوح أن والده كان يدللُه. فقد أمضى أياماً سعيدة جداً في مزرعته الشاسعة، هاسييندا نابولس، مدينة ملاهٍ امتلأت بحيوانات أفريقية وديناصورات ضخمة مصنوعة من الإسمنت ومراكب تعمل بمحرك ودراجات نارية ذات بثلاث عجلات. ويخبر ماروكين أن أباه كان يمضي الساعات معه، فيقرأ له الكتب وينشد الأغاني.

كذلك يوضح أن والده اعتاد فصل العمل عن العائلة: {طبعاً، لم يكن يجلس إلى طاولة الفطار صباحاً ويقول مثلاً: أعطني حبوب الذرة. سنفجّر بعد الظهر ثلاث قنابل ونقتل كثيرين}.

لم يحاول ماروكين تبرير أفعال أبيه. لكنه تحدث عن {أعمال الإحسان التي قام بها إسكوبار في البداية، حين تسنت له فرصة مساعدة الفقراء}. فراح يتكلم عن المنازل وملاعب كرة القدم التي أقامها إسكوبار في مادلين، ما جعله بطلاً شعبياً في نظر البعض. ثم عبّر عن أسفه على أن {هذه الجهود تحولت إلى اتجاه مختلف. أنا مضطر إلى التعايش مع هذا الواقع. لا خيار آخر أمامي}.

صحيح أن ماروكين بدا منزعجاً بعض الشيء من حديثه عن معاناة عائلته في تلك الفترة، بيد أن الجميع في كولومبيا يعرفون أن مجموعة من التجار المعادين لإسكوبار، {لوس بيبيس}، حاولت القضاء على معالم إمبراطوريته، حتى المقربين منه. وفي عام 1988، انفجر 680 كيلوغراماً من الديناميت خارج المبنى حيث كانت عائلة إسكوبار تقيم، وبالكاد نجا أفرادها بحياتهم.

في 2 ديسمبر عام 1993، حين قُتل إسكوبار أخيراً، أطلق ماروكين عبارات ما زال يحاول نسيانها. فعندما أخبره أحد المراسلين بما حدث، بدا برده المتهور ابن أبيه حقاً: {لا نريد التكلم الآن، لكنني سأقتل بنفسي الأوغاد الذين نفذوا هذه العملية}. صحيح أنه عاود الاتصال بالمراسل بعد لحظات لسحب كلامه هذا، إلا أن الضرر كان قد وقع.

قال الرجال الذين ورثوا عمل أبيه، تجار مخدرات ساعدوا السلطات على الإمساك بإسكوبار، لوالدة ماروكين، ماريا فيكتوريا هينو، إن بإمكانها هي وابنتها مغادرة كولومبيا، لكن ابنها يلزم أن يموت كي لا يقتلهم عندما يكبر ويصبح رجلاً. وحدها تضرعات الأم وطلبها الرحمة أنقذت ابنها.

في الأشهر التالية، وضعت الحكومة يدها على ممتلكات العائلة وحساباتها المصرفية، فيما استولى أعداء إسكوبار على ما تبقى. فبدلت العائلة هويتها. وبمساعدة مكتب المدعي العام في كولومبيا، غادرت البلاد في رحلة قادتها أولاً إلى الموزمبيق لينتهي بها المطاف إلى الأرجنتين.

لكن ماضيها عاود الظهور في عام 1999، حين فتحت السلطات الأرجنتينية تحقيقاً في قضية تبييض أموال ضدها. لكن المحكمة العليا برأتها، بعدما أمضى ماروكين 45 يوماً في السجن وأمه سنة ونصف السنة.

حتى اليوم، لا تزال علاقة ماروكين بوالده تثير الشكوك. ففي الشهر الماضي، أخبر مدير شرطة كولومبيا، أوسكار مارانخو، {الأسوشييتد بريس} أن ماروكين تولى إدارة كارتيل والده في الأشهر الأخيرة قبل مقتل إسكوبار، على رغم أنه بالكاد بلغ السادسة عشرة. غير أن مكتب المدعي العام أكّد ألا تحقيق فُتح بهذا الشأن.

أما ماروكين فيذكر أنه علم بحياة والده الإجرامية من الصحف وزملائه في الصف، مؤكداً أنها حياة لم يردها مطلقاً: {لو قررت السير على خطى أبي لرأيت التاريخ يعيد نفسه. سبق أن عشت هذه الحياة عن كثب وأعرف كيف تبدأ القصة وتنتهي}.

back to top